((لقد رأيتُ جعفراً في الجنّة له جناحان مُضرَّجان بالدّماء وهو مصبوغ القوادِمِ))…..(حديث شريف)
*****
كان في بني عبد مناف(عبد مناف: من أجداد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبنوه هم العشرة الأقربون للنبي الكريم) خمسة رجال يُشبهون رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدّ الشّبه حتى إنّ ضعاف البَصر كثيراً ما كانوا يخلِطون بين النبي وبينهم .
ولا ريب في أنّك تود أن تعرف هؤلاء الخمسة الذين يُشبهون نبيّك عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام .
فتعال نتعرّف عليهم .
إنّهم : أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وهو ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأخوه من الرّضاع .
وقُثمُ بن العبّاس بن عبد المطلب ، وهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً .
والسائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم جدُّ الإمام الشافعي رضي الله عنه .
والحسن بن علي سِبط رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أشدّ الخمسة شَبهاً بالنبي صلوات الله عليه .
وجعفر بن أبي طالب ، وهو أخو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب . فتعال نقصّ عليك صوراً من حياة جعفر رضي الله عنه …
كان أبو طالب ـ على الرغم من سُمو شرفه في قريش ، وعُلوّ منزلته في قومه ـ رقيق الحال كثير العيال .
وقد ازدادت حاله سوءاً على سوء بسبب تلك السنة المُجدبة ، التي نزلت بقريش فأهلكت الزّرع والضرع ، وحملت الناس على أن يأكلوا العظام البالية .
ولم يكن في بني ((هاشم)) ـ يومئذ ـ أغنى من محمد بن عبد الله ، ومن عمّه العبّاس .
فقال محمد للعبّاس : يا عم ، إنّ أخاك أبا طالب كثير العيال ، وقد أصاب الناس ما ترى من شدة القحط ومضَضِ الجوع ، فانطلق بنا إليه حتّى نحمل عنه بعض عياله ؛ فآخذ أنا فتىً من بنيه ، وتأخذ أنت فتىً آخر فنَكفيهُما عنه .
فقال العبّاس : لقد دعوت إلى خير ، وحضضتَ على بِرٍّ .
ثم انطلقا حتّى أتيا أبا طالب ، فقالا له : إنّا نريد أن نُخفّف عنك بعض ما تحمله من عبء عِيالك حتى ينكشف هذا الضّرّ الذي مسَّ الناس .
فقال لهما : إذا تركتما لي عقيلاً (عقيل: هو عقيل بن أبي طالب أخو علي وهو أكبر منه) فاصنعا ما شئتما …
فأخذ محمد عليّاً وضمّه إليه ، وأخذ العبّاس جعفراً وجعله في عياله .
فلم يزل علي مع محمد حتّى بعثه الله بدين الهدى والحقّ ، فكان أوّل من آمن من الفتيان .
وظلّ جعفر مع عمه العبّاس حتى شبّ وأسلم واستغنى عنه .
انضمّ جعفر بن أبي طالب إلى ركبِ النّور هو وزوجه أسماء بنت عُميسٍ منذ أول الطريق .
فقد أسلما على يدي الصّدّيق رضي الله عنه قبل أن يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم دار الأرقَمِ (دار الأرقم: دار بمكّة تسمّى دار الإسلام ، كانت للأرقم بن عبد مناف المخزومي ، وفيها كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الإسلام) .
ولقِيَ الفتى الهاشميّ وزوجه الشابّة من أذى قريش ونكالها ما لقيه المُسلمون الأوّلون ، فصبرا على الأذى لأنهما كانا يعلمان أنّ طريق الجنّة مفروش بالأشواك محفوف بالمكاره ؛ ولكن الذي كان يُنغِّصهما وينغّص إخوتهما في الله أنّ قريشاً كانت تحول دونهم ودون أداء شعائر الإسلام ، وتحرمهم من أن يتذوّقوا لذّة العبادة ؛ فقد كانت تقف لهم في كل مرصد ، وتُحصي عليهم الأنفاس .
عند ذلك استأذن جعفر بن أبي طالب رسول الله صلوات الله عليه بأن يُهاجر مع زوجته ونفر من الصّحابة إلى ((الحبشة)) ، فأذِن لهم وهو أسوان حزين .
فقد كان يعزّ عليه أن يُرغم هؤلاء الأطهار الأبرار على مفارقة ديارهم ، وترك مراتِع طفولتهم ومغاني شبابهم دون ذنب جنوه إلا أنّهم قالوا : ربُّنا الله .
ولكنّه لم يملك من القوّة والحول ما يدفع به عنهم أذى قريش .
مضى ركبُ المهاجرين الأوّلين إلى أرض ((الحبشة)) ، وعلى رأسهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ، واستقرّوا في كَنَفِ النّجاشيّ ملِكِها العادل الصّالِح .
فتذوّقوا لأوّل مرة ـ منذ أسلموا ـ طعم الأمن ، واستمتعوا بحلاوة العبادة دون أن يُعكّر متعة عبادتهم مُعكّر ، أو يُكدّر صفو سعادتهم مُكدّر .
لكنّ قريش ما كانت تعلم برحيل هذا النفر من المسلمين إلى أرض ((الحبشة)) ، وتقف على ما نالوه في حمى مليكها من الطمأنينة على دينهم ، والأمن على عقيدتهم ، حتّى هبّت تأتمر بهم لقتلهم أو تسترجعهم إلى السجن الكبير .
فلنترك الحديث لأمِّ سلمة رضي الله عنها لِتروي لنا الخبر كما رأته عيناها وسمعته أذناها .
قالت أمّ سلمة:
لمّا نزلنا أرض ((الحبشة)) لقِينا فيها خير جِوار ، فأمنّا على ديننا ، وعَبدنا الله تعالى ربّنا من غير أن نُؤذى أو نسمع شيئاً نكرهه ، فلمّا بلغ ذلك قريشاً ائتمرت بنا فأرسلت إلى النجاشيّ رجلين جَلدَين(جلدين: قويين) من رِجالها ، هما : عمرو بن العاص وعبد الله بن ربيعة ، وبعثت معها بهدايا كثيرة للنجاشيّ ولِبطَارِقَته (البطارقة: جمع بطريق: وهو رجُل الدين عند النّصارى) ممّا كانوا يستطرفونه من أرض الحجاز . ثمَّ أوصتهما بأن يدفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن يُكلِّما ملك الحبشة في أمرِنا .
فلمّا قدِما الحبشة لقِيا بطارقة النّجاشيّ ، ودفعا إلى كل بطريق هديّته ؛ فلم يبق أحد منهم إلا أهديا إليه وقالا له :
إنّه قد حلّ في أرض الملك غِلمان من سُفهائنا ، صبؤوا عن دين آبائهم وأجدادهم ، وفرّقوا كلمة قومهم ؛ فإذا كلّمنا الملك في أمرهم فأشيروا عليه بأن يُسلّمهم إلينا دون أن يسألهم عن دينهم ؛ فإنّ أشراف قومهم أبصر بهم ، وأعلم بما يعتقدون … فقال البطارقة: نعم …
قالت أمّ سلمة: ولم يكن هناك شيء أكره لعمرو وصاحبه من أن يستدعي النجاشيّ أحداً منَّا ويسمع كلامه .
ثمَّ أتيا النجاشيّ وقدّما إليه الهدايا ، فاستطرفها وأعجب بها ، ثمّ كلّماه فقالا :
أيها الملك إنّه قد أوى إلى مملكتك طائفة من أشرار غِلمانِنا ، قد جاؤوا بدين لا نعرفه نحن ولا أنتم ؛ ففارقوا ديننا ولم يدخلو في دينكم … وقد بعثنا إليك أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لِتردّهم إليهم ، وهم أعلم الناس بما أحدثوه من فتنة .
فنظر النجاشي إلى بطارقته ، فقال البطارقة :
صدقا ـ أيها الملك ـ … فإن قومهم أبصر بهم وأعلم بما صنعوا ، فرُدّهم إليهم ليروا رأيهم فيهم .
فغضِب الملك غضباً شديداً من كلام بطارقته وقال :
لا والله ، لا أسلمهم لأحد حتّى أدعوهم ، وأسألهم عمّا نُسِبَ إليهم ، فإن كانوا كما يقول هذان الرجلان أسلمتهم لهما ، وإن كانوا على غير ذلك حميتهم وأحسنت جِوارهم ما جاوروني .
قالت أمّ سلمة: ثُمّ أرسل النجاشيّ يدعونا للقائه . فاجتمعنا قبل الذهاب إليه وقال بعضنا لبعض :
إنَّ الملك سيسألكم عن دينكم فاصدعوا بما تؤمنون به ، وَليتكَلَّم عنكم جعفر بن أبي طالب ، ولا يتَكلَّم أحد غيره .
قالت أمّ سلمة: ثمّ ذهبنا إلى النجاشي فوجدناه قد دعا بطارقته ، فجلسوا عن يمينه وعن شماله ، وقد لبِسوا طَيالِستهم (الطيالسة: جمع طيلسان: وهو كساء أخضر يلبسه الأشراف ورجال الدين) ، واعتمروا قلانِسهم (أي: وضعوا على رؤوسهم) ، ونشروا كتبهم بين أيديهم …
ووجدنا عنده عمرو بن العاص ، وعبد الله بن أبي ربيعة .
فلمّا استقرَّ بنا المجلس التفت إلينا النجاشيّ وقال :
ما هذا الدين الذي استحدثتموه لأنفسكم وفارقتم بسببه دين قومكم ، ولم تدخلو في ديني ، ولا في دين أي من هذه المِلل ؟ … فتقدّم منه جعفر بن أبي طالب وقال :
أيّها الملك … كُنَّا قوماً أهل جاهليّة ، نعبد الأصنام ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ، ونُسيء الجِوار ، ويأكل القوي منّا الضعيف ، وبقينا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منَّا نعرِف نسبَه ، وصدقه وأمانته وعفافه …
فدعانا إلى الله ؛ لنوحِّده ونعبده ونخلع ما كنَّا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان …
وقد أمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة ، وصِلة الرَّحِم وحُسن الجِوار ، والكفِّ عن المحارم وحقن الدماء ، ونهانا عن الفواحش وقول الزّور ، وأكل مال اليتيم وقذف المُحْصَنات .
وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئاً ، وأن نقيم الصلاة ، ونُؤتي الزكاة ، ونصوم رمضان … فصدَّقناه وآمنَّا به ، واتّبعناه على ما جاء به من عند الله ، فحلَّلنا ما أحلّ لنا ، وحرّمنا ما حرّم علينا .
فما كان من قومنا أيها الملك إلا أن عدوا علينا ؛ فعذّبونا أشدّ العذاب لِيفتنونا عن ديننا ويردُّونا إلى عبادة الأوثان …
فلمَّا ظلمونا وقهرونا ، وضيَّقوا علينا ، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بِلادك ، واخترناك على من سِواك ، ورغِبنا في جِوارك ، ورجونَا ألا نُظلم عِندك .
قالت أمّ سلمة :
فالتفت النجاشيّ إلى جعفر بن أبي طالب ، وقال : هل معك شيء ممَّا جاء به نبيّكم عنِ اللهِ ؟ .. قال : نعم . ، قال : فاقرأهُ عليَّ ؛ فقرأ عليه :
((( كهيعص{1} ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا{2} إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً{3} قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً{4} ))) : سورة مريم
حتّى أتمَّ صدراً من السّورة .
قالت أمّ سلمة : فبكى النجاشيّ حتّى اخضلَّت لِحيته بالدّموع ، وبكى أساقِفتُه حتّى بلّلوا كُتُبهم ؛ لِما سمعوه من كلام الله …
وهنا قال لنا النجاشي : إنّ هذا الذي جاء به نبيّكم والذي جاء به عيسى لَيخرُج من مِشكاةٍ واحدة (المشكاة: ما يوضع عليه المِصباح، والمراد يخرجان من نور واحد) … ثّمَّ التفت إلى عمرو وصاحبه وقال لهما :
انطلِقا ، فلا والله لا أسلِمُهُم إليكما أبداً .
قالت أمّ سلمة : فلمّا خرجنا من عند النجاشيّ توعَّدنا عمرو بن العاص وقال لِصاحبه:
والله لآتينَّ الملك غداً ، ولأذكُرنَّ له من أمرهم ما يملأ صدره غيظاً منهم ويشحن فؤاده كُرهاً لهم ، ولأحمِلنَّه على أن يستأصلهم من جُذورهم .
فقال له عبد الله بن أبي ربيعة : لا تفعل يا عمرو ، فإنّهم من ذوي قُربانَا ، وإن كانوا قد خالفونا .
فقال له عمرو: دع عنك هذا … والله لأخبرنّه بما يُزلزِلُ أقدامهم … واللهِ لأقولنَّ له : إنّهم يزعمون أنَّ عيسى بن مريم عَبدٌ …
فلمّا كان الغد دخل عمرو على النجاشيّ وقال له :
أيّها الملك … إنَّ هؤلاء الذين آويتهم وحميتهم ، يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً … فأرسِل إليهم ، وسلهم عمَّا يقولونه فيه .
قالت أمّ سلمة: فلمّا عرفنا ذلك ، نزلَ بنا من الهمّ والغمّ ما لم نتعرَّض لِمثله قطّ … وقال بعضنا لبعض :
ماذا تقولون في عيسى بن مريم إذا سألكُم عنه الملك ؟ .
فقلنا: واللهِ لا نقول فيه إلا ما قال اللهُ ، ولا نخرج في أمره قيدَ أُنمُلة عمّا جاءنا به نبيّنا ، وليكن بسبب ذلك ما يكون .
ثمَّ اتّفقنا على أن يتولَّى الكلام عنَّا جعفر بن أبي طالب أيضاً … فلمّا دعانا النجاشيّ دخلنا عليه فوجدنا عنده بطارِقته على الهيئة التي رأيناهم عليها من قبل . ووجدنا عنده عمرو بن العاص وصاحبه .
فلمّا صِرنا بين يديه بادَرنا بِقوله : ماذا تقولون في عيسى بن مريم ؟ .
فقال له جعفر بن أبي طالب : إنّما نقولُ فيه ما جاء به نبيّنا صلى الله عليه وسلم .. فقال النجاشيّ : وما الذي يقوله فيه ؟ .
فأجاب جعفر : يقول عنه : إنّه عبدُ الله ورسوله ، ورُوحه وكلِمتُهُ التي ألقاها إلى مريم العذراء البَتُول .
فما إن سمِع النجاشيّ قول جعفر حتّى ضرب بيده الأرض وقال :
واللهِ ، ما خرج عيسى بن مريم عمَّا جاء به نبيّكم مِقدار شعرة … فتناخرت البطارِقة (أي: أخرجوا أصواتاً من أنوفهم) من حول النجاشيّ استِنكاراً لِما سمِعوه منه … فقال : وإن تناخرتم … ثمَّ التفت وقال : اذهبوا فأنتم آمنون … مَن سبَّكم غَرِمَ ، ومَن تعرَّض لكم عُوقِبَ … وَوَاللهِ ما أُحبُّ أن يكون لي جبل من ذهب ، وأن يُصاب أحد مِنكم بِسوء … ثمّ نظرَ إلى عمرو وصاحبه وقال :
رُدُّوا على هذين الرجلين هداياهما ؛ فلا حاجة لي بها .
قالت أمّ سلمة: فخرج عمرو وصاحبه مكسورين مقهورين يجُرَّان أذيال الخيبة … أمَّا نحن فقد أقمنا عِند النجاشيّ بِخير دار مع أكرم جار .
قضى جعفر بن أبي طالب هو وزوجته في رِحاب النجاشيّ عشر سنوات آمنين مُطمئنّين . وفي السنة السابعة للهجرة غادرا بلاد الحبشة مع نفر من المسلمين مُتّجهين إلى يثرب ، فلمّا بلغوها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عائِداً لِتوّه من خيبر ، بعد أن فتحها الله له . ففرِح بلقاء جعفر فرحاً شديداً حتّى قال :
((ما أدري بأيّهما أنا أشدّ فرحاً !! …
أبِفتحِ خيبر أم بِقدوم جعفر ؟)) .
ولم تكن فرحة المسلمين عامة والفقراء منهم خاصّة بعودة جعفر بأقلِّ مِن فرحة الرسول صلوات الله وسلامه عليه … فقد كان جعفر شديد العطف على الضعفاء كثير البرّ بهم ، حتّى إنّه كان يُلقَّب ((بأبي المساكين)) .
أخبر عنه أبو هريرة رضي الله عنه فقال : كان خير الناس لنا ـ معشر المساكين ـ جعفر بن أبي طالب ، فقد كان يمضي بنا إلى بيته فيُطعمنا ما يكون عِنده ، حتّى إذا نفِذَ طعامه أخرج لنا العِكَّة التي يوضع فيها السّمن وليس فيها شيء ، فنشُقّها ونلعق ما علِق بداخِلها .
لم يطل مُكث جعفر بن أبي طالب في المدينة . ففي أوائل السنة الثامنة للهجرة جهَّز الرسول صلوات الله وسلامه عليه جيشاً لِمُنازلة الرّوم في بلاد الشام ، وأمَّر على الجيش زيد بن حارِثة وقال:
(إن قُتِل زيد أو أصيب فالأمير جعفر بن أبي طالب ، فإن قُتل جعفر أو أصيب فالأمير عبد الله بن رواحة ، فإن قتل عبد الله بن رواحة أو أصيب فليختر المُسلمون لأنفسهم أميراً منهم) .
فلمّا وصل المسلمون إلى مُؤتة وهي قرية واقعة على مشارف الشام في الأردن ؛ وجدوا أنّ الرّوم قد أعدّوا لهم مائة ألف تُسانِدهم مائة ألف أخرى من نصارى العرب مِن قبائل ((لَخم ، وجُذام ، وقُضاعة)) وغيرها . أمّا جيش المسلمين فكان ثلاثة آلاف …
وما إن التقى الجمعان ودارت رحى المعركة حتّى خرَّ زيد بن حارثة صريعاً مُقبِلاً غير مُدبِر … فما أسرع أن وثَبَ جعفر بن أبي طالب عن ظهر فرس كانت له شقراء ، ثمَّ عَقرها(عقرها: ضرب قوائمها) بِسيفه حتّى لا ينتفع بها الأعداء من بعده . وحمل الرّاية ودخل بعيداً في صفوف الرّوم وهو يُنشِد :
يا حبَّذا الجنَّةُ وَاقتِرابُهـــــا
طيِّبَةٌ وبَارِدٌ شرَابُهـــــــــــا
وَالرُّومُ رُومٌ قدْ دَنَا عذَابُهــا
كَافِرةٌ بَعِيدَةٌ أَنْسَابُهــــــــــــا
عَلَيَّ إِذْ لاقَيْتُهَا ضِرَابُهَـــــــا
وظلَّ في صفوف الأعداء بسيفه يصول حتّى أصابته ضربة قطعت يمينه ، فأخذ الرّاية بشِماله ، فما لبِثَ أن أصابته أخرى قطعت شماله ، فأخذَ الرّاية بصدره وعضديه ، فما لبِثَ أن أصابته ثالِثة شطرتهُ شَطرين …فأخذ الرّاية منه عبد الله بن رواحة فما زال يُقاتل حتّى لحِقَ بصاحِبيه .
بلَغَ الرّسول صلوات الله عليه مصرع قُوّاده الثلاثة فحزِن عليهم أشدّ الحزن وأمضّه وانطلق إلى بيت ابن عمّه جعفر بن أبي طالب ، فألفى زوجته أسماء بنت عُميس تتأهّب لاستقبال زوجها الغائب .. فهي قد عجنت عجينها ، وغسلت بَنِيهَا ودهنتهم وألبستهم … قالت أسماء :
فلمّا أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم غُلالة من الحُزن تُغطّي وجهه الكريم ، فسَرَتِ المخاوف في نفسي ، غير أنّي لم أشأ أن أسأله عن جعفر مخافة أن أسمع منه ما أكره .
فحيَّا وقال : (ائْتيني بأولاد جعفر) … فدعوتهم له .
فهبّوا نحوه فرحين مُزغردين ، وأخذوا يتزاحمون عليه ؛ كُلٌّ يريد أن يستأثر به .. فأكبَّ عليهم ، وجعل يتشمَّمُهم ، وعيناه تذرفان من الدمع .
فقلت: يا رسول الله ـ بأبي أنت وأمي ـ ما يُبكيك ؟! … أبَلَغَكَ عن جعفر وصاحبيه شيء ؟! .
قال : (نعم … لقد استشهدوا هذا اليوم) …
عند ذلك غاضت البسمة من وجوه الصّغار لمَّا سمِعوا أُمَّهم تبكي وتنشج ، وجمدوا في أماكنهم كأنَّ على رؤوسهم الطَّير … أمَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضى وهو يمسح دموعه ويقول :
((اللّهمَّ اخلُف جعفراً في ولدِهِ …
اللَّهمَّ اخلُف جعفراً في أهلِهِ …)) .
ثُمَّ قال :
((لقد رأيتُ جعفراً في الجنَّةِ ، لهُ جناحانِ مُضرَّجانِ بِالدِّماءِ ، وهوَ مَصبُوغُ القَوادِمِ)) .
*****
كان في بني عبد مناف(عبد مناف: من أجداد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبنوه هم العشرة الأقربون للنبي الكريم) خمسة رجال يُشبهون رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدّ الشّبه حتى إنّ ضعاف البَصر كثيراً ما كانوا يخلِطون بين النبي وبينهم .
ولا ريب في أنّك تود أن تعرف هؤلاء الخمسة الذين يُشبهون نبيّك عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام .
فتعال نتعرّف عليهم .
إنّهم : أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وهو ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأخوه من الرّضاع .
وقُثمُ بن العبّاس بن عبد المطلب ، وهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً .
والسائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم جدُّ الإمام الشافعي رضي الله عنه .
والحسن بن علي سِبط رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أشدّ الخمسة شَبهاً بالنبي صلوات الله عليه .
وجعفر بن أبي طالب ، وهو أخو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب . فتعال نقصّ عليك صوراً من حياة جعفر رضي الله عنه …
كان أبو طالب ـ على الرغم من سُمو شرفه في قريش ، وعُلوّ منزلته في قومه ـ رقيق الحال كثير العيال .
وقد ازدادت حاله سوءاً على سوء بسبب تلك السنة المُجدبة ، التي نزلت بقريش فأهلكت الزّرع والضرع ، وحملت الناس على أن يأكلوا العظام البالية .
ولم يكن في بني ((هاشم)) ـ يومئذ ـ أغنى من محمد بن عبد الله ، ومن عمّه العبّاس .
فقال محمد للعبّاس : يا عم ، إنّ أخاك أبا طالب كثير العيال ، وقد أصاب الناس ما ترى من شدة القحط ومضَضِ الجوع ، فانطلق بنا إليه حتّى نحمل عنه بعض عياله ؛ فآخذ أنا فتىً من بنيه ، وتأخذ أنت فتىً آخر فنَكفيهُما عنه .
فقال العبّاس : لقد دعوت إلى خير ، وحضضتَ على بِرٍّ .
ثم انطلقا حتّى أتيا أبا طالب ، فقالا له : إنّا نريد أن نُخفّف عنك بعض ما تحمله من عبء عِيالك حتى ينكشف هذا الضّرّ الذي مسَّ الناس .
فقال لهما : إذا تركتما لي عقيلاً (عقيل: هو عقيل بن أبي طالب أخو علي وهو أكبر منه) فاصنعا ما شئتما …
فأخذ محمد عليّاً وضمّه إليه ، وأخذ العبّاس جعفراً وجعله في عياله .
فلم يزل علي مع محمد حتّى بعثه الله بدين الهدى والحقّ ، فكان أوّل من آمن من الفتيان .
وظلّ جعفر مع عمه العبّاس حتى شبّ وأسلم واستغنى عنه .
انضمّ جعفر بن أبي طالب إلى ركبِ النّور هو وزوجه أسماء بنت عُميسٍ منذ أول الطريق .
فقد أسلما على يدي الصّدّيق رضي الله عنه قبل أن يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم دار الأرقَمِ (دار الأرقم: دار بمكّة تسمّى دار الإسلام ، كانت للأرقم بن عبد مناف المخزومي ، وفيها كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الإسلام) .
ولقِيَ الفتى الهاشميّ وزوجه الشابّة من أذى قريش ونكالها ما لقيه المُسلمون الأوّلون ، فصبرا على الأذى لأنهما كانا يعلمان أنّ طريق الجنّة مفروش بالأشواك محفوف بالمكاره ؛ ولكن الذي كان يُنغِّصهما وينغّص إخوتهما في الله أنّ قريشاً كانت تحول دونهم ودون أداء شعائر الإسلام ، وتحرمهم من أن يتذوّقوا لذّة العبادة ؛ فقد كانت تقف لهم في كل مرصد ، وتُحصي عليهم الأنفاس .
عند ذلك استأذن جعفر بن أبي طالب رسول الله صلوات الله عليه بأن يُهاجر مع زوجته ونفر من الصّحابة إلى ((الحبشة)) ، فأذِن لهم وهو أسوان حزين .
فقد كان يعزّ عليه أن يُرغم هؤلاء الأطهار الأبرار على مفارقة ديارهم ، وترك مراتِع طفولتهم ومغاني شبابهم دون ذنب جنوه إلا أنّهم قالوا : ربُّنا الله .
ولكنّه لم يملك من القوّة والحول ما يدفع به عنهم أذى قريش .
مضى ركبُ المهاجرين الأوّلين إلى أرض ((الحبشة)) ، وعلى رأسهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ، واستقرّوا في كَنَفِ النّجاشيّ ملِكِها العادل الصّالِح .
فتذوّقوا لأوّل مرة ـ منذ أسلموا ـ طعم الأمن ، واستمتعوا بحلاوة العبادة دون أن يُعكّر متعة عبادتهم مُعكّر ، أو يُكدّر صفو سعادتهم مُكدّر .
لكنّ قريش ما كانت تعلم برحيل هذا النفر من المسلمين إلى أرض ((الحبشة)) ، وتقف على ما نالوه في حمى مليكها من الطمأنينة على دينهم ، والأمن على عقيدتهم ، حتّى هبّت تأتمر بهم لقتلهم أو تسترجعهم إلى السجن الكبير .
فلنترك الحديث لأمِّ سلمة رضي الله عنها لِتروي لنا الخبر كما رأته عيناها وسمعته أذناها .
قالت أمّ سلمة:
لمّا نزلنا أرض ((الحبشة)) لقِينا فيها خير جِوار ، فأمنّا على ديننا ، وعَبدنا الله تعالى ربّنا من غير أن نُؤذى أو نسمع شيئاً نكرهه ، فلمّا بلغ ذلك قريشاً ائتمرت بنا فأرسلت إلى النجاشيّ رجلين جَلدَين(جلدين: قويين) من رِجالها ، هما : عمرو بن العاص وعبد الله بن ربيعة ، وبعثت معها بهدايا كثيرة للنجاشيّ ولِبطَارِقَته (البطارقة: جمع بطريق: وهو رجُل الدين عند النّصارى) ممّا كانوا يستطرفونه من أرض الحجاز . ثمَّ أوصتهما بأن يدفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن يُكلِّما ملك الحبشة في أمرِنا .
فلمّا قدِما الحبشة لقِيا بطارقة النّجاشيّ ، ودفعا إلى كل بطريق هديّته ؛ فلم يبق أحد منهم إلا أهديا إليه وقالا له :
إنّه قد حلّ في أرض الملك غِلمان من سُفهائنا ، صبؤوا عن دين آبائهم وأجدادهم ، وفرّقوا كلمة قومهم ؛ فإذا كلّمنا الملك في أمرهم فأشيروا عليه بأن يُسلّمهم إلينا دون أن يسألهم عن دينهم ؛ فإنّ أشراف قومهم أبصر بهم ، وأعلم بما يعتقدون … فقال البطارقة: نعم …
قالت أمّ سلمة: ولم يكن هناك شيء أكره لعمرو وصاحبه من أن يستدعي النجاشيّ أحداً منَّا ويسمع كلامه .
ثمَّ أتيا النجاشيّ وقدّما إليه الهدايا ، فاستطرفها وأعجب بها ، ثمّ كلّماه فقالا :
أيها الملك إنّه قد أوى إلى مملكتك طائفة من أشرار غِلمانِنا ، قد جاؤوا بدين لا نعرفه نحن ولا أنتم ؛ ففارقوا ديننا ولم يدخلو في دينكم … وقد بعثنا إليك أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لِتردّهم إليهم ، وهم أعلم الناس بما أحدثوه من فتنة .
فنظر النجاشي إلى بطارقته ، فقال البطارقة :
صدقا ـ أيها الملك ـ … فإن قومهم أبصر بهم وأعلم بما صنعوا ، فرُدّهم إليهم ليروا رأيهم فيهم .
فغضِب الملك غضباً شديداً من كلام بطارقته وقال :
لا والله ، لا أسلمهم لأحد حتّى أدعوهم ، وأسألهم عمّا نُسِبَ إليهم ، فإن كانوا كما يقول هذان الرجلان أسلمتهم لهما ، وإن كانوا على غير ذلك حميتهم وأحسنت جِوارهم ما جاوروني .
قالت أمّ سلمة: ثُمّ أرسل النجاشيّ يدعونا للقائه . فاجتمعنا قبل الذهاب إليه وقال بعضنا لبعض :
إنَّ الملك سيسألكم عن دينكم فاصدعوا بما تؤمنون به ، وَليتكَلَّم عنكم جعفر بن أبي طالب ، ولا يتَكلَّم أحد غيره .
قالت أمّ سلمة: ثمّ ذهبنا إلى النجاشي فوجدناه قد دعا بطارقته ، فجلسوا عن يمينه وعن شماله ، وقد لبِسوا طَيالِستهم (الطيالسة: جمع طيلسان: وهو كساء أخضر يلبسه الأشراف ورجال الدين) ، واعتمروا قلانِسهم (أي: وضعوا على رؤوسهم) ، ونشروا كتبهم بين أيديهم …
ووجدنا عنده عمرو بن العاص ، وعبد الله بن أبي ربيعة .
فلمّا استقرَّ بنا المجلس التفت إلينا النجاشيّ وقال :
ما هذا الدين الذي استحدثتموه لأنفسكم وفارقتم بسببه دين قومكم ، ولم تدخلو في ديني ، ولا في دين أي من هذه المِلل ؟ … فتقدّم منه جعفر بن أبي طالب وقال :
أيّها الملك … كُنَّا قوماً أهل جاهليّة ، نعبد الأصنام ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ، ونُسيء الجِوار ، ويأكل القوي منّا الضعيف ، وبقينا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منَّا نعرِف نسبَه ، وصدقه وأمانته وعفافه …
فدعانا إلى الله ؛ لنوحِّده ونعبده ونخلع ما كنَّا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان …
وقد أمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة ، وصِلة الرَّحِم وحُسن الجِوار ، والكفِّ عن المحارم وحقن الدماء ، ونهانا عن الفواحش وقول الزّور ، وأكل مال اليتيم وقذف المُحْصَنات .
وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئاً ، وأن نقيم الصلاة ، ونُؤتي الزكاة ، ونصوم رمضان … فصدَّقناه وآمنَّا به ، واتّبعناه على ما جاء به من عند الله ، فحلَّلنا ما أحلّ لنا ، وحرّمنا ما حرّم علينا .
فما كان من قومنا أيها الملك إلا أن عدوا علينا ؛ فعذّبونا أشدّ العذاب لِيفتنونا عن ديننا ويردُّونا إلى عبادة الأوثان …
فلمَّا ظلمونا وقهرونا ، وضيَّقوا علينا ، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بِلادك ، واخترناك على من سِواك ، ورغِبنا في جِوارك ، ورجونَا ألا نُظلم عِندك .
قالت أمّ سلمة :
فالتفت النجاشيّ إلى جعفر بن أبي طالب ، وقال : هل معك شيء ممَّا جاء به نبيّكم عنِ اللهِ ؟ .. قال : نعم . ، قال : فاقرأهُ عليَّ ؛ فقرأ عليه :
((( كهيعص{1} ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا{2} إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً{3} قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً{4} ))) : سورة مريم
حتّى أتمَّ صدراً من السّورة .
قالت أمّ سلمة : فبكى النجاشيّ حتّى اخضلَّت لِحيته بالدّموع ، وبكى أساقِفتُه حتّى بلّلوا كُتُبهم ؛ لِما سمعوه من كلام الله …
وهنا قال لنا النجاشي : إنّ هذا الذي جاء به نبيّكم والذي جاء به عيسى لَيخرُج من مِشكاةٍ واحدة (المشكاة: ما يوضع عليه المِصباح، والمراد يخرجان من نور واحد) … ثّمَّ التفت إلى عمرو وصاحبه وقال لهما :
انطلِقا ، فلا والله لا أسلِمُهُم إليكما أبداً .
قالت أمّ سلمة : فلمّا خرجنا من عند النجاشيّ توعَّدنا عمرو بن العاص وقال لِصاحبه:
والله لآتينَّ الملك غداً ، ولأذكُرنَّ له من أمرهم ما يملأ صدره غيظاً منهم ويشحن فؤاده كُرهاً لهم ، ولأحمِلنَّه على أن يستأصلهم من جُذورهم .
فقال له عبد الله بن أبي ربيعة : لا تفعل يا عمرو ، فإنّهم من ذوي قُربانَا ، وإن كانوا قد خالفونا .
فقال له عمرو: دع عنك هذا … والله لأخبرنّه بما يُزلزِلُ أقدامهم … واللهِ لأقولنَّ له : إنّهم يزعمون أنَّ عيسى بن مريم عَبدٌ …
فلمّا كان الغد دخل عمرو على النجاشيّ وقال له :
أيّها الملك … إنَّ هؤلاء الذين آويتهم وحميتهم ، يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً … فأرسِل إليهم ، وسلهم عمَّا يقولونه فيه .
قالت أمّ سلمة: فلمّا عرفنا ذلك ، نزلَ بنا من الهمّ والغمّ ما لم نتعرَّض لِمثله قطّ … وقال بعضنا لبعض :
ماذا تقولون في عيسى بن مريم إذا سألكُم عنه الملك ؟ .
فقلنا: واللهِ لا نقول فيه إلا ما قال اللهُ ، ولا نخرج في أمره قيدَ أُنمُلة عمّا جاءنا به نبيّنا ، وليكن بسبب ذلك ما يكون .
ثمَّ اتّفقنا على أن يتولَّى الكلام عنَّا جعفر بن أبي طالب أيضاً … فلمّا دعانا النجاشيّ دخلنا عليه فوجدنا عنده بطارِقته على الهيئة التي رأيناهم عليها من قبل . ووجدنا عنده عمرو بن العاص وصاحبه .
فلمّا صِرنا بين يديه بادَرنا بِقوله : ماذا تقولون في عيسى بن مريم ؟ .
فقال له جعفر بن أبي طالب : إنّما نقولُ فيه ما جاء به نبيّنا صلى الله عليه وسلم .. فقال النجاشيّ : وما الذي يقوله فيه ؟ .
فأجاب جعفر : يقول عنه : إنّه عبدُ الله ورسوله ، ورُوحه وكلِمتُهُ التي ألقاها إلى مريم العذراء البَتُول .
فما إن سمِع النجاشيّ قول جعفر حتّى ضرب بيده الأرض وقال :
واللهِ ، ما خرج عيسى بن مريم عمَّا جاء به نبيّكم مِقدار شعرة … فتناخرت البطارِقة (أي: أخرجوا أصواتاً من أنوفهم) من حول النجاشيّ استِنكاراً لِما سمِعوه منه … فقال : وإن تناخرتم … ثمَّ التفت وقال : اذهبوا فأنتم آمنون … مَن سبَّكم غَرِمَ ، ومَن تعرَّض لكم عُوقِبَ … وَوَاللهِ ما أُحبُّ أن يكون لي جبل من ذهب ، وأن يُصاب أحد مِنكم بِسوء … ثمّ نظرَ إلى عمرو وصاحبه وقال :
رُدُّوا على هذين الرجلين هداياهما ؛ فلا حاجة لي بها .
قالت أمّ سلمة: فخرج عمرو وصاحبه مكسورين مقهورين يجُرَّان أذيال الخيبة … أمَّا نحن فقد أقمنا عِند النجاشيّ بِخير دار مع أكرم جار .
قضى جعفر بن أبي طالب هو وزوجته في رِحاب النجاشيّ عشر سنوات آمنين مُطمئنّين . وفي السنة السابعة للهجرة غادرا بلاد الحبشة مع نفر من المسلمين مُتّجهين إلى يثرب ، فلمّا بلغوها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عائِداً لِتوّه من خيبر ، بعد أن فتحها الله له . ففرِح بلقاء جعفر فرحاً شديداً حتّى قال :
((ما أدري بأيّهما أنا أشدّ فرحاً !! …
أبِفتحِ خيبر أم بِقدوم جعفر ؟)) .
ولم تكن فرحة المسلمين عامة والفقراء منهم خاصّة بعودة جعفر بأقلِّ مِن فرحة الرسول صلوات الله وسلامه عليه … فقد كان جعفر شديد العطف على الضعفاء كثير البرّ بهم ، حتّى إنّه كان يُلقَّب ((بأبي المساكين)) .
أخبر عنه أبو هريرة رضي الله عنه فقال : كان خير الناس لنا ـ معشر المساكين ـ جعفر بن أبي طالب ، فقد كان يمضي بنا إلى بيته فيُطعمنا ما يكون عِنده ، حتّى إذا نفِذَ طعامه أخرج لنا العِكَّة التي يوضع فيها السّمن وليس فيها شيء ، فنشُقّها ونلعق ما علِق بداخِلها .
لم يطل مُكث جعفر بن أبي طالب في المدينة . ففي أوائل السنة الثامنة للهجرة جهَّز الرسول صلوات الله وسلامه عليه جيشاً لِمُنازلة الرّوم في بلاد الشام ، وأمَّر على الجيش زيد بن حارِثة وقال:
(إن قُتِل زيد أو أصيب فالأمير جعفر بن أبي طالب ، فإن قُتل جعفر أو أصيب فالأمير عبد الله بن رواحة ، فإن قتل عبد الله بن رواحة أو أصيب فليختر المُسلمون لأنفسهم أميراً منهم) .
فلمّا وصل المسلمون إلى مُؤتة وهي قرية واقعة على مشارف الشام في الأردن ؛ وجدوا أنّ الرّوم قد أعدّوا لهم مائة ألف تُسانِدهم مائة ألف أخرى من نصارى العرب مِن قبائل ((لَخم ، وجُذام ، وقُضاعة)) وغيرها . أمّا جيش المسلمين فكان ثلاثة آلاف …
وما إن التقى الجمعان ودارت رحى المعركة حتّى خرَّ زيد بن حارثة صريعاً مُقبِلاً غير مُدبِر … فما أسرع أن وثَبَ جعفر بن أبي طالب عن ظهر فرس كانت له شقراء ، ثمَّ عَقرها(عقرها: ضرب قوائمها) بِسيفه حتّى لا ينتفع بها الأعداء من بعده . وحمل الرّاية ودخل بعيداً في صفوف الرّوم وهو يُنشِد :
يا حبَّذا الجنَّةُ وَاقتِرابُهـــــا
طيِّبَةٌ وبَارِدٌ شرَابُهـــــــــــا
وَالرُّومُ رُومٌ قدْ دَنَا عذَابُهــا
كَافِرةٌ بَعِيدَةٌ أَنْسَابُهــــــــــــا
عَلَيَّ إِذْ لاقَيْتُهَا ضِرَابُهَـــــــا
وظلَّ في صفوف الأعداء بسيفه يصول حتّى أصابته ضربة قطعت يمينه ، فأخذ الرّاية بشِماله ، فما لبِثَ أن أصابته أخرى قطعت شماله ، فأخذَ الرّاية بصدره وعضديه ، فما لبِثَ أن أصابته ثالِثة شطرتهُ شَطرين …فأخذ الرّاية منه عبد الله بن رواحة فما زال يُقاتل حتّى لحِقَ بصاحِبيه .
بلَغَ الرّسول صلوات الله عليه مصرع قُوّاده الثلاثة فحزِن عليهم أشدّ الحزن وأمضّه وانطلق إلى بيت ابن عمّه جعفر بن أبي طالب ، فألفى زوجته أسماء بنت عُميس تتأهّب لاستقبال زوجها الغائب .. فهي قد عجنت عجينها ، وغسلت بَنِيهَا ودهنتهم وألبستهم … قالت أسماء :
فلمّا أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم غُلالة من الحُزن تُغطّي وجهه الكريم ، فسَرَتِ المخاوف في نفسي ، غير أنّي لم أشأ أن أسأله عن جعفر مخافة أن أسمع منه ما أكره .
فحيَّا وقال : (ائْتيني بأولاد جعفر) … فدعوتهم له .
فهبّوا نحوه فرحين مُزغردين ، وأخذوا يتزاحمون عليه ؛ كُلٌّ يريد أن يستأثر به .. فأكبَّ عليهم ، وجعل يتشمَّمُهم ، وعيناه تذرفان من الدمع .
فقلت: يا رسول الله ـ بأبي أنت وأمي ـ ما يُبكيك ؟! … أبَلَغَكَ عن جعفر وصاحبيه شيء ؟! .
قال : (نعم … لقد استشهدوا هذا اليوم) …
عند ذلك غاضت البسمة من وجوه الصّغار لمَّا سمِعوا أُمَّهم تبكي وتنشج ، وجمدوا في أماكنهم كأنَّ على رؤوسهم الطَّير … أمَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضى وهو يمسح دموعه ويقول :
((اللّهمَّ اخلُف جعفراً في ولدِهِ …
اللَّهمَّ اخلُف جعفراً في أهلِهِ …)) .
ثُمَّ قال :
((لقد رأيتُ جعفراً في الجنَّةِ ، لهُ جناحانِ مُضرَّجانِ بِالدِّماءِ ، وهوَ مَصبُوغُ القَوادِمِ)) .
الإثنين ديسمبر 09, 2019 2:56 am من طرف ^_^amdian^_^
» مدينة رسول الله وفضائلها
الخميس أغسطس 21, 2014 11:00 pm من طرف ام هنا
» مايحتاجه جسم المؤمن من طعام
الخميس أغسطس 21, 2014 10:53 pm من طرف ام هنا
» كيف أجعل زوجي يطيعني ,,,طريقة ناجحة
الخميس أغسطس 21, 2014 10:52 pm من طرف ام هنا
» خواطر حزينة
الخميس أغسطس 21, 2014 10:50 pm من طرف ام هنا
» الاخوه فى الله عز وجل
الخميس أغسطس 21, 2014 10:26 pm من طرف ام هنا
» طريقة للزواج العاجل والسريع للبنت
الأربعاء فبراير 26, 2014 1:02 pm من طرف مشاعل
» سلسله افلام على الكسار DSRip
الأحد فبراير 02, 2014 8:38 am من طرف eigle
» فضل يوم عرفه
الإثنين أكتوبر 14, 2013 10:52 am من طرف وليد السيد محمد
» الاخوه فى الله عز وجل
الأربعاء سبتمبر 25, 2013 11:23 pm من طرف وليد السيد محمد
» الاخوه فى الله عز وجل
الأربعاء سبتمبر 25, 2013 10:43 pm من طرف وليد السيد محمد
» حياة القرآن اجمل حياه
الثلاثاء سبتمبر 24, 2013 12:06 am من طرف وليد السيد محمد
» تلبيا لرغبات الاعضاء فيلم" البحث عن نيمو" مدبلج بالعربية
الإثنين سبتمبر 23, 2013 12:22 am من طرف عاشقه عبودي
» طلب طلب طلب طلب
الإثنين سبتمبر 23, 2013 12:17 am من طرف عاشقه عبودي
» سندريلا الجزء الاول مدبلج بالعربية
الإثنين سبتمبر 23, 2013 12:08 am من طرف عاشقه عبودي
» اكواد كول تون البوم اليسا الجديد {تصدق بمين}
الأحد سبتمبر 22, 2013 11:50 pm من طرف عاشقه عبودي
» معلومات غريبة ومفيدة
الأحد أغسطس 04, 2013 5:54 am من طرف اميرة احمد
» فوائد بيض الارانب!!!
الأحد أغسطس 04, 2013 5:47 am من طرف اميرة احمد
» عضو جديد أود التعارف
الثلاثاء يونيو 11, 2013 10:29 am من طرف ايلين الخيال
» الشيخ محمد العريفي :أيقظ غيرك .معلومات رائعة
الأحد أبريل 28, 2013 5:16 pm من طرف ام هنا
» وصفه لتخسيس البطن
السبت أبريل 27, 2013 10:56 am من طرف ام هنا
» بجد مفيش حاجة فى الدنيا نزعل عليها
الجمعة أبريل 26, 2013 4:37 pm من طرف ام هنا
» هل تعلم ان ...
الإثنين أبريل 22, 2013 1:09 pm من طرف ام هنا
» هل تعلم ان الرعد***
الأربعاء أبريل 17, 2013 8:12 pm من طرف ام هنا
» قالوا عن المراة
الثلاثاء أبريل 16, 2013 9:03 pm من طرف ام هنا
» معلومات عن التمر صدمتنى
الإثنين أبريل 15, 2013 11:32 pm من طرف ام هنا
» خواطر كن كما انت
الإثنين أبريل 15, 2013 5:50 pm من طرف ام هنا
» اربعون حديثا قدسيا واربعون حديثا من الاذكار
الإثنين أبريل 15, 2013 5:29 pm من طرف ام هنا
» انا والحزن
الأحد أبريل 14, 2013 6:30 pm من طرف ام هنا
» هل انت فى نعمة
الأحد أبريل 14, 2013 6:22 pm من طرف ام هنا