((يُدفن تحت أسوار القُسطنطِينيَّة))
……….
هذا الصحابي الجليل يُدعى خالد بن زيد بن كُليب ، من بني ((النّجّار)) .. أمّا كُنيته فأبو أيّوب .. وأمّا نسبته فإلى الأنصار .
ومن منَّا معشرَ المسلمين لا يعرف أبا أيّوب الأنصاريّ ؟! .
فقد رفع الله في الشرق والغرب ذِكره ، وأعلى في الخلق قدره ؛ حين اختار بيته من دون بيوت المسلمين جميعاً لينزل فيه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لمّا حلَّ في المدينة مُهاجراً ، وحسبُهُ بذلك فخراً .
ولنزُول الرسول صلوات الله عليه في بيت أبي أيّوب قصّة يحلو تردادها ويلذُّ تكرارها .
ذلك أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام حين بلغ المدينة تلقّته أفئدة أهلها بأكرم ما يُتلقّى بهِ وافد … وتطلَّعت إليه عيونهم تبثّه شوق الحبيب إلى حبيبه … وفتحوا له قلوبهم ليحلَّ منها في السّويداء ـ أي في أعماق القلوب ـ … وأشرعوا له أبواب بيوتهم لينزل فيها أعزّ منزل .
لكن الرسول صلوات الله وسلامه عليه ، قضى في ((قباء)) من ضواحي المدينة أيّاماً أربعة ، بنى خِلالها مسجده الذي هو أوّل مسجد أُسّس على التّقوى .
ثمَّ خرج منها راكباً ناقته ، فوقف سادات ((يثرب)) في طريقها ، كلٌّ يريد أن يظفر بشرف نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته … وكانوا يعترضون النّاقة سيّداً إثرَ سيّد ، ويقولون :
أقِم عِندنا يا رسول الله في العَدَدِ والعُدَدِ والمَنعَة (المنعة: القوّة التي تمنع من يريده بسوء) .
فيقول لهم : (دعوها فإنّها مأمورة) .
وتظلّ الناقة تمضي إلى غايتها تتبعها العيون ، وتحفّ بها القلوب … فإذا جازت منزلاً حزِنَ أهله وأصابهم اليأس ، بينما يُشرق الأمل في نفوس من يليهم .
وما زالت الناقة على حالها هذه ، والناس يمضون في إثرها ، وهم يتلهّفون شوقاً لمعرفة السّعيد المحظوظ ؛ حتّى بلغت ساحة خلاء أمام بيت أبي أيّوب الأنصاريّ ، وبركت فيها …لكنّ الرسول عليه الصلاة والسلام لم ينزل عنها … فما لبثت أن وثبت وانطلقت تمشي ، والرسول صلى الله عليه وسلم مُرخٍ لها زمامها ، ثمّ ما لبثت أن عادت أدراجها وبركت في مبركها الأوّل .
عند ذلك غمرت الفرحة فؤاد أبي أيّوب الأنصاريّ ، وبادر إلى رسول الله صلوات الله عليه يُرحّب به ، وحمل متاعه بين يديه ، وكأنّما يحمل كنوز الدنيا كلّها ، ومضى بهِ إلى بيته .
كان منزل أبي أيّوب يتألّف من طبقة فوقها عُلّيَّة ، فأخلى العُلّيَّة من متاعه ومتاع أهله ليُنزِلَ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم … لكنَّ النبي عليه الصلاة والسلام آثَرَ عليها الطّبقة السُّفلى ، فامتثلَ أبو أيّوب لأمره ، وأنزلَهُ حيث أحبَّ .
ولمّا أقبل الليل ، وأوى الرسول صلوات الله عليه إلى فراشه ، صعدَ أبو أيّوب الأنصاريّ وزوجه إلى العُلّيّة ، وما إن أغلقا عليهما بابها حتّى التفّتَ أبو أيّوب إلى زوجته وقال :
وَيحَكِ ، ماذا صَنعنَا ؟! … أيكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أسفل ، ونحن أعلى منه ؟! … أَنَمشي فوق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! … أنَصيرُ بين النبي والوحي ؟! إنّا إذن لهالكون .
وسُقِطَ في أيدي الزّوجين ـ أي تحيّرا وندِما ـ وهما لا يدريان ما يفعلان .
ولم تسكن نفساهما بعض السكون إلا حين انحازا إلى جانب العُلّيّة الذي لا يقع فوق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتزماه لا يبرحانه إلا ماشيين على الأطراف مُتباعِدين عن الوسط .
فلمّا أصبح أبو أيّوب ؛ قال للنبي عليه الصلاة والسلام :
واللهِ ما أُغمِضَ لنا جفن في هذه الليلة ، لا أنا ولا أمّ أيّوب .
فقال عليه الصلاة والسلام : (وممَّ ذاكَ يا أبا أيّوب؟!) .
قال : ذكرتُ أنِّي على ظهر بيت أنت تحته ، وأنّي إذا تحرّكت تناثرَ عليك الغُبار فآذاك ، ثمّ أنِّي غدوت بينك وبين الوحي .
فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام :
((هوّن عليك يا أبا أيّوب ، إنَّهُ أرفقُ بنا أن نكونَ في السٌّفلِ ؛ لكثرةِ مَن يغشانا ـ أي يزورنا ـ من الناس )) .
قال أبو أيّوب :
فامتثلت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن كانت ليلة باردة فانكسرت لنا جرّة وأريق ماؤها في العُلّيَّة ، فقُمتُ إلى الماء أنا وأمّ أيّوب ، وليس لدينا إلا قطيفة ـ أي قطعة من المخمل ـ كُنّا نتّخذها لِحافاً ، وجعلنا نُنشّف بها الماء خوفاً من أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فلمّا كان الصّباح غدوت على الرسول صلوات الله عليه ، وقلت :
بأبي أنت وأمّي ، إنّي أكره أن أكون فوقك ، وأن تكون أسفل منّي … ثمّ قصصتُ عليه خبر الجرّة ، فاستجاب لي ، وصعدَ إلى العُلّيّة ، ونزلتُ أنا وأمّ أيّوب إلى السُّفل .
أقام النبي عليه الصلاة والسلام في بيت أبي أيّوب نحواً من سبعة أشهر ، حتّى تمّ بناء مسجده في الأرض الخلاء التي بركت فيها النّاقة ، فانتقل إلى الحُجرات التي أقيمت حول المسجد له ولأزواجه ، فغدا جاراً لأبي أيّوب ، أكرِم بهما من مُتجاورين .
أحبَّ أبو أيّوب رسول الله صلوات الله عليه حُبَّاً ملكَ عليه قلبهُ ولُبّه ، وأحبَّ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أبا أيّوب حُبّاً أزال الكُلفة فيما بينه وبينه ، وجعلهُ ينظُر إلى بيت أبي أيّوب كأنّهُ بيتُهُ .
حدَّثَ ابن عبَّاس قال :
خرج أبو بكر رضي الله عنه بالهاجِرة ـ أي في نصف النهار في شدّة القيظ ـ إلى المسجد فرآه عمر رضي الله عنه ، فقال :
يا أبا بكر ما أخرجَكَ هذه الساعة ؟! .
قال : ما أخرجني إلا ما أجِدُ من شدّة الجوع .
فقال عمر : وأنا واللهِ ما أخرجني غيرُ ذلك .
فبينما هما كذلك ؛ إذ خرجَ عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
(ما أخرجَكما هذه الساعة؟!) .
قالا : واللهِ ما أخرجنا إلا ما نجِدُهُ في بطوننا من شدّة الجوع .
قال عليه السلام : ( وأنا ـ والذي نفسي بيده ـ ما أخرجني غيرُ ذلك … قوما معي ).
فانطلقوا فأتوا باب أبي أيّوب الأنصاريّ رضي الله عنه ، وكان أبو أيّوب يدَّخر لرسول الله صلى الله عليه وسلم كلَّ يوم طعاماً ، فإذا أبطأ عنه ولم يأتِ إليه في حينه أطعمه لأهله .. فلمّا بلغوا الباب خرجت إليهم أمّ أيّوب ، وقالت : مرحباً بنبيّ الله وبمَن معه .
فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام : (أينَ أبو أيّوب ؟) … فسمعَ أبو أيّوب صوت النبي صلى الله عليه وسلم ـ وكان يعمل في نحل قريب له ـ فأقبل يُسرِع ، وهو يقول :
مرحباً برسول الله وبِمَن معه ، ثُمَّ أتبعَ قائلاً :
يا نبيَّ اللهِ ليس هذا بالوقت الذي كُنتَ تجيء فيه .
فقال عليه الصلاة والسلام : (صدقتَ) ، ثمَّ انطلقَ أبو أيّوب إلى نخيله فقطعَ منهَ عِذقاً ـ أي غصن له شِعب ـ فيه تمرٌ ورُطَب وبُسْرٌ ـ الرطب: ما نضج من تمر النخل ، والبسر: ما لم يكتمل نضجه ـ .
فقال عليه الصلاة والسلام : ( ما أردتُ أن تقطع هذا ، ألا جَنيتَ لنا من تَمرِه ؟) .
قال : يا رسول الله أحببتُ أن تأكُلَ من تمرِهِ ورُطَبِهِ وبُسْرِهِ ، ولأذبحنَّ لك أيضاً .
قال : ( إن ذبحتَ فلا تذبحنَّ ذات لبنٍ ) .
فأخذ أبو أيّوب جَدياً فذَبحه ، ثمَّ قال لامرأته : اعْجِني واخبزي لنا ، وأنتِ أعلم بالخَبزِ ، ثمّ أخذَ نصف الجَدي فطبخَهُ ، وعمَدَ إلى نصفه الثاني فشواه ، فلمَّا نضِجَ الطعام ووُضِعَ بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ، أخذَ الرسول قطعة من الجدي ووضعها في رغيف ، وقال :
(يا أبا أيّوب ، بادِر بهذه القِطعة إلى فاطمة ، فإنّها لم تُصِب مثل هذا منذُ أيّام ) ..
فلمّا أكلوا وشبِعوا قال النبي صلى الله عليه وسلم :
(خُبزٌ ، ولحمٌ ، وتمرٌ ، وبسرٌ ، ورُطبٌ !!! ) … ودمَعت عيناه ثمَّ قال :
( والذي نفسي بيده إنَّ هذا هو النعيم الذي تُسألون عنه يوم القيامة ، فإذا أصبتم مثلَ هذا فضربتم بأيديكم فيه فقولوا :
بسمِ اللهِ ، فإذا شبِعتم فقولوا : الحمدُ للهِ الذي هوَ أشبعنا وأنعمَ علينا فأفضَلَ ).
ثمَّ نهض الرسول صلوات الله عليه ، وقال لأبي أيّوب :
( ائْتِنَا غداً ) .
وكان عليه الصلاة والسلام لا يصنع له أحدٌ معروفاً إلا أحبَّ أن يُجازيَهُ عليه ، لكنَّ أبا أيّوب لم يسمع ذلك .. فقال له عمر رِضوان الله عليه :
إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يأمُرُكَ أن تأتيهِ غداً يا أبا أيّوب .
فقال أبو أيّوب : سَمعاً وطاعةً لرسول الله .
فلمّا كان الغد ذهبَ أبو أيّوب إلى النبي عليه الصلاة والسلام فأعطاه جاريةً صغيرة كانت تخدمه ، وقال له :
( اسْتوصِ بها خيراً ـ يا أبا أيّوب ـ فإنّا لم نرَ منها إلا خيراً ما دامت عِندنا ) .
عاد أبو أيّوب إلى بيته ومعه الجارية ؛ فلمّا رأتها أمّ أيّوب :
قالت : لِمن هذه يا أبا أيّوب ؟! .
قال : لنا … مَنَحنا إيَّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقالت : أعظِم بهِ من مانِحٍ ؛ وأكرِم بها من مِنحةٍ .
فقال : وقد أوصانا بها خيراً .
فقالت : وكيفَ نصنع بها حتّى نُنفِّذ وصيّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ .
فقال : واللهِ لا أجدُ لوصيّة رسول الله بها خيراً مِن أن أُعتِقها .
فقالت : هُدِيتَ إلى الصّواب ، فأنتَ مُوفّقٌ … ثمّ أعتقها .
هذه بعض صور حياة أبي أيّوب الأنصاريّ في سِلمِهِ ، فلو أُتيحَ لكَ أن تقِفَ على بعض صور حياته في حربِهِ لرأيتَ عجبَاً …
فقد عاش أبو أيّوب رضي الله عنه طول حياته غازياً حتّى قِيلَ :
إنّه لم يتخلّف عن غزوة غزاها المسلمون منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى زمن معاوية إلا إذا كان مُنشغِلاً عنها بأخرى .
وكانت آخر غزواته حين جهّز معاوية جيشاً بقيادة ابنه ((يَزيد)) ، لِفتحِ ((القُسطَنطِينيَّة)) ، وكان أبو أيّوب آنذاك شيخاً طاعِناً في السّنّ يحبو نحوَ الثمانين من عمره ؛ فلم يمنعه ذلك من أن ينضمّ تحت لواء ((يزيد)) ، وأن يشقّ أمواج البحر غازياً في سبيل الله .
لكنّه لم يمضِ غير قليل على منازلة العدوّ حتّى مرِض أبو أيّوب مرَضاً أقعدَه عن مواصلة القتال ، فجاء (يزيد)) ليعُودَهُ وسألَهُ :
ألَكَ من حاجةٍ يا أبا أيّوب ؟ .
فقال : اِقرَأ عنِّي السلام على جُنودِ المسلمين ، وقل لهم :
يُوصيكم أبو أيّوب أن تُوغِلوا في أرضِ العدوِّ إلى أبعدِ غايةٍ ، وأن تحمِلوه معكم ، وأن تدفِنوه تحت أقدامِكم عِندَ أسوار ((القُسطنطينيّة)) … ولفظَ أنفاسَهُ الطَّاهِرة .
استجاب جُندُ المسلمين لِرغبة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكرُّوا على جُند العدوِّ الكرَّة بعدَ الكرَّة ، حتَّى بلغوا أسوار ((القسطنطينيّة)) وهم يحملوا أبا أيّوب معهم … وهُناكَ حفروا له قبراً وواروهُ فيه .
رحِمَ اللهُ أبا أيّوب الأنصاريَّ …
فقد أبى إلا أن يموتَ على ظُهورِ الجِيادِ الصَّافِنات ـ وهي صفة من صفات الجياد الكريمة ـ غازياً في سبيل الله … وسِنُّهُ تُقارِب الثمانين .
المصدر
كتاب صور من حياة الصحابة للدكتورعبد الرحمن رأفت الباشا رحمه الله
……….
هذا الصحابي الجليل يُدعى خالد بن زيد بن كُليب ، من بني ((النّجّار)) .. أمّا كُنيته فأبو أيّوب .. وأمّا نسبته فإلى الأنصار .
ومن منَّا معشرَ المسلمين لا يعرف أبا أيّوب الأنصاريّ ؟! .
فقد رفع الله في الشرق والغرب ذِكره ، وأعلى في الخلق قدره ؛ حين اختار بيته من دون بيوت المسلمين جميعاً لينزل فيه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لمّا حلَّ في المدينة مُهاجراً ، وحسبُهُ بذلك فخراً .
ولنزُول الرسول صلوات الله عليه في بيت أبي أيّوب قصّة يحلو تردادها ويلذُّ تكرارها .
ذلك أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام حين بلغ المدينة تلقّته أفئدة أهلها بأكرم ما يُتلقّى بهِ وافد … وتطلَّعت إليه عيونهم تبثّه شوق الحبيب إلى حبيبه … وفتحوا له قلوبهم ليحلَّ منها في السّويداء ـ أي في أعماق القلوب ـ … وأشرعوا له أبواب بيوتهم لينزل فيها أعزّ منزل .
لكن الرسول صلوات الله وسلامه عليه ، قضى في ((قباء)) من ضواحي المدينة أيّاماً أربعة ، بنى خِلالها مسجده الذي هو أوّل مسجد أُسّس على التّقوى .
ثمَّ خرج منها راكباً ناقته ، فوقف سادات ((يثرب)) في طريقها ، كلٌّ يريد أن يظفر بشرف نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته … وكانوا يعترضون النّاقة سيّداً إثرَ سيّد ، ويقولون :
أقِم عِندنا يا رسول الله في العَدَدِ والعُدَدِ والمَنعَة (المنعة: القوّة التي تمنع من يريده بسوء) .
فيقول لهم : (دعوها فإنّها مأمورة) .
وتظلّ الناقة تمضي إلى غايتها تتبعها العيون ، وتحفّ بها القلوب … فإذا جازت منزلاً حزِنَ أهله وأصابهم اليأس ، بينما يُشرق الأمل في نفوس من يليهم .
وما زالت الناقة على حالها هذه ، والناس يمضون في إثرها ، وهم يتلهّفون شوقاً لمعرفة السّعيد المحظوظ ؛ حتّى بلغت ساحة خلاء أمام بيت أبي أيّوب الأنصاريّ ، وبركت فيها …لكنّ الرسول عليه الصلاة والسلام لم ينزل عنها … فما لبثت أن وثبت وانطلقت تمشي ، والرسول صلى الله عليه وسلم مُرخٍ لها زمامها ، ثمّ ما لبثت أن عادت أدراجها وبركت في مبركها الأوّل .
عند ذلك غمرت الفرحة فؤاد أبي أيّوب الأنصاريّ ، وبادر إلى رسول الله صلوات الله عليه يُرحّب به ، وحمل متاعه بين يديه ، وكأنّما يحمل كنوز الدنيا كلّها ، ومضى بهِ إلى بيته .
كان منزل أبي أيّوب يتألّف من طبقة فوقها عُلّيَّة ، فأخلى العُلّيَّة من متاعه ومتاع أهله ليُنزِلَ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم … لكنَّ النبي عليه الصلاة والسلام آثَرَ عليها الطّبقة السُّفلى ، فامتثلَ أبو أيّوب لأمره ، وأنزلَهُ حيث أحبَّ .
ولمّا أقبل الليل ، وأوى الرسول صلوات الله عليه إلى فراشه ، صعدَ أبو أيّوب الأنصاريّ وزوجه إلى العُلّيّة ، وما إن أغلقا عليهما بابها حتّى التفّتَ أبو أيّوب إلى زوجته وقال :
وَيحَكِ ، ماذا صَنعنَا ؟! … أيكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أسفل ، ونحن أعلى منه ؟! … أَنَمشي فوق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! … أنَصيرُ بين النبي والوحي ؟! إنّا إذن لهالكون .
وسُقِطَ في أيدي الزّوجين ـ أي تحيّرا وندِما ـ وهما لا يدريان ما يفعلان .
ولم تسكن نفساهما بعض السكون إلا حين انحازا إلى جانب العُلّيّة الذي لا يقع فوق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتزماه لا يبرحانه إلا ماشيين على الأطراف مُتباعِدين عن الوسط .
فلمّا أصبح أبو أيّوب ؛ قال للنبي عليه الصلاة والسلام :
واللهِ ما أُغمِضَ لنا جفن في هذه الليلة ، لا أنا ولا أمّ أيّوب .
فقال عليه الصلاة والسلام : (وممَّ ذاكَ يا أبا أيّوب؟!) .
قال : ذكرتُ أنِّي على ظهر بيت أنت تحته ، وأنّي إذا تحرّكت تناثرَ عليك الغُبار فآذاك ، ثمّ أنِّي غدوت بينك وبين الوحي .
فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام :
((هوّن عليك يا أبا أيّوب ، إنَّهُ أرفقُ بنا أن نكونَ في السٌّفلِ ؛ لكثرةِ مَن يغشانا ـ أي يزورنا ـ من الناس )) .
قال أبو أيّوب :
فامتثلت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن كانت ليلة باردة فانكسرت لنا جرّة وأريق ماؤها في العُلّيَّة ، فقُمتُ إلى الماء أنا وأمّ أيّوب ، وليس لدينا إلا قطيفة ـ أي قطعة من المخمل ـ كُنّا نتّخذها لِحافاً ، وجعلنا نُنشّف بها الماء خوفاً من أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فلمّا كان الصّباح غدوت على الرسول صلوات الله عليه ، وقلت :
بأبي أنت وأمّي ، إنّي أكره أن أكون فوقك ، وأن تكون أسفل منّي … ثمّ قصصتُ عليه خبر الجرّة ، فاستجاب لي ، وصعدَ إلى العُلّيّة ، ونزلتُ أنا وأمّ أيّوب إلى السُّفل .
أقام النبي عليه الصلاة والسلام في بيت أبي أيّوب نحواً من سبعة أشهر ، حتّى تمّ بناء مسجده في الأرض الخلاء التي بركت فيها النّاقة ، فانتقل إلى الحُجرات التي أقيمت حول المسجد له ولأزواجه ، فغدا جاراً لأبي أيّوب ، أكرِم بهما من مُتجاورين .
أحبَّ أبو أيّوب رسول الله صلوات الله عليه حُبَّاً ملكَ عليه قلبهُ ولُبّه ، وأحبَّ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أبا أيّوب حُبّاً أزال الكُلفة فيما بينه وبينه ، وجعلهُ ينظُر إلى بيت أبي أيّوب كأنّهُ بيتُهُ .
حدَّثَ ابن عبَّاس قال :
خرج أبو بكر رضي الله عنه بالهاجِرة ـ أي في نصف النهار في شدّة القيظ ـ إلى المسجد فرآه عمر رضي الله عنه ، فقال :
يا أبا بكر ما أخرجَكَ هذه الساعة ؟! .
قال : ما أخرجني إلا ما أجِدُ من شدّة الجوع .
فقال عمر : وأنا واللهِ ما أخرجني غيرُ ذلك .
فبينما هما كذلك ؛ إذ خرجَ عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
(ما أخرجَكما هذه الساعة؟!) .
قالا : واللهِ ما أخرجنا إلا ما نجِدُهُ في بطوننا من شدّة الجوع .
قال عليه السلام : ( وأنا ـ والذي نفسي بيده ـ ما أخرجني غيرُ ذلك … قوما معي ).
فانطلقوا فأتوا باب أبي أيّوب الأنصاريّ رضي الله عنه ، وكان أبو أيّوب يدَّخر لرسول الله صلى الله عليه وسلم كلَّ يوم طعاماً ، فإذا أبطأ عنه ولم يأتِ إليه في حينه أطعمه لأهله .. فلمّا بلغوا الباب خرجت إليهم أمّ أيّوب ، وقالت : مرحباً بنبيّ الله وبمَن معه .
فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام : (أينَ أبو أيّوب ؟) … فسمعَ أبو أيّوب صوت النبي صلى الله عليه وسلم ـ وكان يعمل في نحل قريب له ـ فأقبل يُسرِع ، وهو يقول :
مرحباً برسول الله وبِمَن معه ، ثُمَّ أتبعَ قائلاً :
يا نبيَّ اللهِ ليس هذا بالوقت الذي كُنتَ تجيء فيه .
فقال عليه الصلاة والسلام : (صدقتَ) ، ثمَّ انطلقَ أبو أيّوب إلى نخيله فقطعَ منهَ عِذقاً ـ أي غصن له شِعب ـ فيه تمرٌ ورُطَب وبُسْرٌ ـ الرطب: ما نضج من تمر النخل ، والبسر: ما لم يكتمل نضجه ـ .
فقال عليه الصلاة والسلام : ( ما أردتُ أن تقطع هذا ، ألا جَنيتَ لنا من تَمرِه ؟) .
قال : يا رسول الله أحببتُ أن تأكُلَ من تمرِهِ ورُطَبِهِ وبُسْرِهِ ، ولأذبحنَّ لك أيضاً .
قال : ( إن ذبحتَ فلا تذبحنَّ ذات لبنٍ ) .
فأخذ أبو أيّوب جَدياً فذَبحه ، ثمَّ قال لامرأته : اعْجِني واخبزي لنا ، وأنتِ أعلم بالخَبزِ ، ثمّ أخذَ نصف الجَدي فطبخَهُ ، وعمَدَ إلى نصفه الثاني فشواه ، فلمَّا نضِجَ الطعام ووُضِعَ بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ، أخذَ الرسول قطعة من الجدي ووضعها في رغيف ، وقال :
(يا أبا أيّوب ، بادِر بهذه القِطعة إلى فاطمة ، فإنّها لم تُصِب مثل هذا منذُ أيّام ) ..
فلمّا أكلوا وشبِعوا قال النبي صلى الله عليه وسلم :
(خُبزٌ ، ولحمٌ ، وتمرٌ ، وبسرٌ ، ورُطبٌ !!! ) … ودمَعت عيناه ثمَّ قال :
( والذي نفسي بيده إنَّ هذا هو النعيم الذي تُسألون عنه يوم القيامة ، فإذا أصبتم مثلَ هذا فضربتم بأيديكم فيه فقولوا :
بسمِ اللهِ ، فإذا شبِعتم فقولوا : الحمدُ للهِ الذي هوَ أشبعنا وأنعمَ علينا فأفضَلَ ).
ثمَّ نهض الرسول صلوات الله عليه ، وقال لأبي أيّوب :
( ائْتِنَا غداً ) .
وكان عليه الصلاة والسلام لا يصنع له أحدٌ معروفاً إلا أحبَّ أن يُجازيَهُ عليه ، لكنَّ أبا أيّوب لم يسمع ذلك .. فقال له عمر رِضوان الله عليه :
إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يأمُرُكَ أن تأتيهِ غداً يا أبا أيّوب .
فقال أبو أيّوب : سَمعاً وطاعةً لرسول الله .
فلمّا كان الغد ذهبَ أبو أيّوب إلى النبي عليه الصلاة والسلام فأعطاه جاريةً صغيرة كانت تخدمه ، وقال له :
( اسْتوصِ بها خيراً ـ يا أبا أيّوب ـ فإنّا لم نرَ منها إلا خيراً ما دامت عِندنا ) .
عاد أبو أيّوب إلى بيته ومعه الجارية ؛ فلمّا رأتها أمّ أيّوب :
قالت : لِمن هذه يا أبا أيّوب ؟! .
قال : لنا … مَنَحنا إيَّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقالت : أعظِم بهِ من مانِحٍ ؛ وأكرِم بها من مِنحةٍ .
فقال : وقد أوصانا بها خيراً .
فقالت : وكيفَ نصنع بها حتّى نُنفِّذ وصيّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ .
فقال : واللهِ لا أجدُ لوصيّة رسول الله بها خيراً مِن أن أُعتِقها .
فقالت : هُدِيتَ إلى الصّواب ، فأنتَ مُوفّقٌ … ثمّ أعتقها .
هذه بعض صور حياة أبي أيّوب الأنصاريّ في سِلمِهِ ، فلو أُتيحَ لكَ أن تقِفَ على بعض صور حياته في حربِهِ لرأيتَ عجبَاً …
فقد عاش أبو أيّوب رضي الله عنه طول حياته غازياً حتّى قِيلَ :
إنّه لم يتخلّف عن غزوة غزاها المسلمون منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى زمن معاوية إلا إذا كان مُنشغِلاً عنها بأخرى .
وكانت آخر غزواته حين جهّز معاوية جيشاً بقيادة ابنه ((يَزيد)) ، لِفتحِ ((القُسطَنطِينيَّة)) ، وكان أبو أيّوب آنذاك شيخاً طاعِناً في السّنّ يحبو نحوَ الثمانين من عمره ؛ فلم يمنعه ذلك من أن ينضمّ تحت لواء ((يزيد)) ، وأن يشقّ أمواج البحر غازياً في سبيل الله .
لكنّه لم يمضِ غير قليل على منازلة العدوّ حتّى مرِض أبو أيّوب مرَضاً أقعدَه عن مواصلة القتال ، فجاء (يزيد)) ليعُودَهُ وسألَهُ :
ألَكَ من حاجةٍ يا أبا أيّوب ؟ .
فقال : اِقرَأ عنِّي السلام على جُنودِ المسلمين ، وقل لهم :
يُوصيكم أبو أيّوب أن تُوغِلوا في أرضِ العدوِّ إلى أبعدِ غايةٍ ، وأن تحمِلوه معكم ، وأن تدفِنوه تحت أقدامِكم عِندَ أسوار ((القُسطنطينيّة)) … ولفظَ أنفاسَهُ الطَّاهِرة .
استجاب جُندُ المسلمين لِرغبة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكرُّوا على جُند العدوِّ الكرَّة بعدَ الكرَّة ، حتَّى بلغوا أسوار ((القسطنطينيّة)) وهم يحملوا أبا أيّوب معهم … وهُناكَ حفروا له قبراً وواروهُ فيه .
رحِمَ اللهُ أبا أيّوب الأنصاريَّ …
فقد أبى إلا أن يموتَ على ظُهورِ الجِيادِ الصَّافِنات ـ وهي صفة من صفات الجياد الكريمة ـ غازياً في سبيل الله … وسِنُّهُ تُقارِب الثمانين .
المصدر
كتاب صور من حياة الصحابة للدكتورعبد الرحمن رأفت الباشا رحمه الله
الإثنين ديسمبر 09, 2019 2:56 am من طرف ^_^amdian^_^
» مدينة رسول الله وفضائلها
الخميس أغسطس 21, 2014 11:00 pm من طرف ام هنا
» مايحتاجه جسم المؤمن من طعام
الخميس أغسطس 21, 2014 10:53 pm من طرف ام هنا
» كيف أجعل زوجي يطيعني ,,,طريقة ناجحة
الخميس أغسطس 21, 2014 10:52 pm من طرف ام هنا
» خواطر حزينة
الخميس أغسطس 21, 2014 10:50 pm من طرف ام هنا
» الاخوه فى الله عز وجل
الخميس أغسطس 21, 2014 10:26 pm من طرف ام هنا
» طريقة للزواج العاجل والسريع للبنت
الأربعاء فبراير 26, 2014 1:02 pm من طرف مشاعل
» سلسله افلام على الكسار DSRip
الأحد فبراير 02, 2014 8:38 am من طرف eigle
» فضل يوم عرفه
الإثنين أكتوبر 14, 2013 10:52 am من طرف وليد السيد محمد
» الاخوه فى الله عز وجل
الأربعاء سبتمبر 25, 2013 11:23 pm من طرف وليد السيد محمد
» الاخوه فى الله عز وجل
الأربعاء سبتمبر 25, 2013 10:43 pm من طرف وليد السيد محمد
» حياة القرآن اجمل حياه
الثلاثاء سبتمبر 24, 2013 12:06 am من طرف وليد السيد محمد
» تلبيا لرغبات الاعضاء فيلم" البحث عن نيمو" مدبلج بالعربية
الإثنين سبتمبر 23, 2013 12:22 am من طرف عاشقه عبودي
» طلب طلب طلب طلب
الإثنين سبتمبر 23, 2013 12:17 am من طرف عاشقه عبودي
» سندريلا الجزء الاول مدبلج بالعربية
الإثنين سبتمبر 23, 2013 12:08 am من طرف عاشقه عبودي
» اكواد كول تون البوم اليسا الجديد {تصدق بمين}
الأحد سبتمبر 22, 2013 11:50 pm من طرف عاشقه عبودي
» معلومات غريبة ومفيدة
الأحد أغسطس 04, 2013 5:54 am من طرف اميرة احمد
» فوائد بيض الارانب!!!
الأحد أغسطس 04, 2013 5:47 am من طرف اميرة احمد
» عضو جديد أود التعارف
الثلاثاء يونيو 11, 2013 10:29 am من طرف ايلين الخيال
» الشيخ محمد العريفي :أيقظ غيرك .معلومات رائعة
الأحد أبريل 28, 2013 5:16 pm من طرف ام هنا
» وصفه لتخسيس البطن
السبت أبريل 27, 2013 10:56 am من طرف ام هنا
» بجد مفيش حاجة فى الدنيا نزعل عليها
الجمعة أبريل 26, 2013 4:37 pm من طرف ام هنا
» هل تعلم ان ...
الإثنين أبريل 22, 2013 1:09 pm من طرف ام هنا
» هل تعلم ان الرعد***
الأربعاء أبريل 17, 2013 8:12 pm من طرف ام هنا
» قالوا عن المراة
الثلاثاء أبريل 16, 2013 9:03 pm من طرف ام هنا
» معلومات عن التمر صدمتنى
الإثنين أبريل 15, 2013 11:32 pm من طرف ام هنا
» خواطر كن كما انت
الإثنين أبريل 15, 2013 5:50 pm من طرف ام هنا
» اربعون حديثا قدسيا واربعون حديثا من الاذكار
الإثنين أبريل 15, 2013 5:29 pm من طرف ام هنا
» انا والحزن
الأحد أبريل 14, 2013 6:30 pm من طرف ام هنا
» هل انت فى نعمة
الأحد أبريل 14, 2013 6:22 pm من طرف ام هنا