اللهمّ اجعل لهُ آيةً تُعينُه على ما ينوِي من الخيرِ)) ……. (من دُعاء الرسول صلى الله عيه وسلم لَهُ)
………..
الطفيل بن عمرو الدوسي سيد قبيلة ((دَوْسٍ)) في الجاهليّة ، وشريف من أشراف العرب المرموقين ، وواحد من أصحاب المروءات المعدودين …
لا تنزل له قِدرٌ عن نار ، ولا يُوصد له باب أمام طارق …
يُطعم الجائع ، ويُؤمّن الخائف ، ويُجير المُستجير .
وهو إلى ذلك أديب أريب لبيب ، وشاعر مُرهف الحِسّ رقيق الشعور بصير بِحُلوِ البيان ومُرّه … حيث تفعل فيه الكلمة فعل السِّحر .
* * *
غادر الطفيل منازل قومه في ((تِهامَة)) ـ تهامَة: السهل الساحلي في جزيرة العرب المحاذي للبحر الأحمرـ مُتوجهاً إلى مكّة ، ورحى الصراع دائرة بين الرسول الكريم صلوات الله عليه وكفّار قريش ، كلّ يريد أن يكسب لنفسه الأنصار ، ويجتذب لحزبِهِ الأعوان …
فالرسول صلوات الله وسلامه عليه يدعو لربّه وسلاحه الإيمان والحقّ .
وكفّار قريش يقاومون دعوته بكل سلاح ، ويصدّون الناس عنه بكل وسيلة .
ووجدَ الطفيل نفسه يدخل في هذه المعركة على غير أُهبة الاستعداد ، ويخوض غِمارها عن غير قصدٍ …
فهو لم يقدم إلى مكّة لهذا الغرض ، ولا خطر له أمر محمد وقريش قبل ذلك على بال .
ومن هنا كانت للطفيل بن عمرو الدوسي مع هذا الصراع حكاية لا تُنسى ؛ فلنستمع إليها ، فإنها من غرائب القِصص .
* * *
حدّث الطفيل قال :
قدِمتُ مكّة ، فما إن رآني سادة قريش ؛ حتّى أقبلوا عليّ فرحّبوا بي أكرم ترحيب ، وأنزلوني فيهم أعزّ منزل .
ثمّ اجتمع إليّ سادتهم وكُبراؤهم وقالوا : يا طفيل ، إنّك قد قدِمت بلادنا ، وهذا الرجل الذي يزعم أنّه نبيّ قد أفسد أمرنا ومزّق شملنا ، وشتّت جماعتنا ، ونحن إنّما نخشى أن يحِلّ بِك وبزعامَتِك في قومِك ما قد حلّ بنا ، فلا تُكلّم الرجل ، ولا تسمعنّ منه شيئاً ؛ فإنّ له قولاً كالسحر : يُفرّق بين الولد وأبيه ، وبين الأخ وأخيه ، وبين الزوجة وزوجها .
قال الطفيل :
فواللهِ ما زالوا بي يقصّون عليّ من غرائب أخباره ، ويُخوّفونَني على نفسي وقومي بعجائب أفعاله ، حتّى أجمعت أمري على ألا أقترب منه ، وألا أكلّمه أو أسمع منه شيئاً .
ولمّا غدوتُ إلى المسجد للطواف بالكعبة ، والتبرّك بأصنامها التي كنّا إليها نحجّ وإيّاها نعظّم ، حشوتُ في أذنيّ قطناً خوفاً من أن يلامس سمعي شيء من قول محمد .
لكني ما إن دخلت المسجد حتّى وجدته قائماً يُصلّي عند الكعبة صلاةً غير صلاتنا ، ويتعبّد عبادةً غير عبادتنا ، فأسَرنِي مَنظرهُ ، وهزّني عِبادته ، ووجدتُ نفسي أدنو منه شيئاً فشيئاً على غير قصد منّي حتّى أصبحت قريباً منه…
وأبى الله إلا أن يصِلَ إلى سمعي بعضٌ مما يقول ، فسمعتُ كلاماً حسناً ، وقلت في نفسي :
ثكِلتكَ أمّك يا طفيل … إنّك لرجل لبيب شاعر ، وما يخفى عليك الحسن من القبيح ، فما يمنعك أن تسمع من الرجل ما يقول …
فإن كان الذي يأتي به حسناً قبِلته ، وإن كان قبيحاً تركته .
* * *
قال الطفيل : ثمّ مكثتُ حتّى انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته ، فتبعته حتّى إذا دخل داره دخلتُ عليه ، فقلت :
يا محمد ، إنّ قومك قد قالوا لي عنك كذا وكذا ، فواللهِ ما برحوا يخوّفونني من أمرك حتّى سددتُ أذنيّ بقطن لئلا أسمع قولك ، ثمّ أبى الله إلا أن يُسمعني شيئاً منه ، فوجدته حسناً … فاعرِض عليّ أمرك …
فعرض عليّ أمره ، وقرأ لي سورة الإخلاص والفلق ، فواللهِ ما سمعت قولاً أحسن من قوله ، ولا رأيت أمراً أعدل من أمره .
عند ذلك بسطت يدي له ، وشهدت أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله ، ودخلتُ في الإسلام .
* * *
قال الطفيل : ثمّ أقمت في مكّة زمناّ تعلّمت فيه أمور الإسلام وحفظتُ فيه ما تيسّر لي من القرآن ، ولمّا عزمت على العودة إلى قومي قلت :
يا رسول الله ، إني امرؤ مطاع في عشيرتي ، وأنا راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام ، فادع الله أن يجعل لي آية تكون لي عوناً فيما أدعوهم إليه ، فقال : ((اللهم اجعل له آية)) .
فخرجت إلى قومي حتّى إذا كنت في موضع مُشرف على منازلهم وقع نور فيما بين عينيّ مثل المصباح ، فقلت :
اللهم اجعله في غير وجهي ، فإنّي أخشى أن يظنّوا أنّها عقوبة وقعت في وجهي لمفارقة دينهم … فتحوّل النّور فوقّع في رأس سوطي ، فجعل الناس يتراءون ذلك النّور في سوطي كالقنديل المُعلّق ، وأنا أهبط إليهم من الثنيّة ـ الثنيّة: العقبة وهي الفرجة بين جبلين ـ فلمّا نزلت ، أتاني أبي ـ وكان شيخاً كبيراً ـ فقلت :
إليك عني يا أبتِ ، فلست منك ولستَ منّي .
قال : ولمَ يا بُنيّ ؟! … قلتُ : لقد أسلمت ، وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم .
قال : أي بنيّ ، ديني دينك ، فقلت : اذهب واغتسل وطهّر ثيابك ، ثمّ تعال حتّى أعلمك ما عُلمتُ .
فذهب فاغتسل وطهّر ثيابه ، ثمّ جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم . ثمّ جاءت زوجتي ، فقلتُ : إليك عنّي فلستُ منكِ ولست منّي .
قالت : ولِمَ ؟! بأبي أنتَ وأمّي ، فقلتُ : فرّق بيني وبينك الإسلام ، فقد أسلمتُ ، وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم .
قالت : فديني دينك ، قلت : فاذهبي فتطهّري من ماء ((ذِي الشّرى)) ـ ذي الشّرى: صنم لدوس حوله ماء يهبط من الجبل ـ .
فقالت : بأبي أنت وأمّي ، أتخشى على الصّبيَة شيئاً من ((ذي الشّرى)) ؟! .
فقلت : تبّاً لكِ ولذي الشّرى … قلتُ لكِ : اذهبي واغتسلي هناك بعيداً عن الناس ، وأنا ضامن لكِ ألا يفعل هذا الحجر الأصمّ شيئاً .
فذهَبَت فاغتسَلت ، ثمّ جاءت ؛ فعرضتُ عليها الإسلام فأسلمت .
ثمّ دعوت ((دوساً)) فأبطؤوا عليّ إلا أبا هريرة فقد كان أسرع الناس إسلاماً .
* * *
قال الطفيل :
فجئتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكّة ، ومعي أبو هريرة …
فقال لي النبيّ عليه الصلاة والسلام : ((ما وراءكَ يا طفيل ؟)) .
فقلتُ : قلوب عليها أكنّة وكفر شديد … لقد غلبَ على دوس الفسوق والعِصيان …
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضّأ وصلّى ورفع يده إلى السماء ، قال أبو هريرة : فلمّا رأيته كذلك خِفت أن يدعو على قومي فيهلكوا … فقلت : واقوماه …
لكنّ الرسول صلوات الله عليه جعل يقول :
((اللهمّ اهدِ دَوْساً … اللهمّ اهدِ دَوْساً … اللهمّ اهدِ دَوْساً)) .
ثمّ التفتَ إلى الطفيل وقال :
((ارجع إلى قومك وارْفْق بهم وادعُهم إلى الإسلام)) .
* * *
قال الطفيل : فلم أزل بأرض ((دوس)) أدعوهم إلى الإسلام حتّى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، ومضت بدر ، وأُحُد ، والخندق ، فقدِمتُ على النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعي ثمانون بيتاً من ((دوس)) أسلموا وحسُنَ إسلامهم ؛ فسرّ بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأسهم لنا مع المسلمين من غنائم ((خيبر)) فقلنا : يا رسول الله : اجْعلنا مَيمَنَتَكَ في كلّ غزوة تغزوها ، واجعل شعارنا : ((مَبرور)) .
قال الطفيل : ثمّّ لم أزل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى فتح الله عليه مكّة ، فقلت :
يا رسول الله ، ابعثني إلى ((ذي الكَفَينِ)) صنم عمرو بن حممة حتّى أحرِقه … فأذِنَ له النبيّ عليه الصلاة والسلام ؛ فسار إلى الصنم في سريّة من قومه .
فلمّا بلغه ، وهمّ بإحراقه اجتمع حوله النساء والرجال والأطفال يتربّصون به الشرّ ، وينتظرون أن تصعقه صاعقة إن هو نال ((ذا الكفين)) بِضُرّ .
لكنّ الطفيل أقبل على الصنم على مشهد من عُبّاده … وجعل يُضرم النار في فُؤاده … وهو يرتجز :
يا ذا الكَفَينِ لستُ مِن عُبّادِكَا
مِيلادُنَا أقدمُ مِن مِيلادِكَا
إنّي حَشَوتُ النّارَ في فُؤادِكَا
وما إن التهمت النّار الصّنم حتّى التهمت معها ما تبقّى من الشرك في قبيلة ((دوس)) ؛ فأسلم القوم جميعاً وحسُنَ إسلامهم .
* * *
ظلّ الطفيل بن عمرو الدوسي بعد ذلك مُلازماً لرسول الله صلوات الله عليه ، حتّى قبضَ النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربّه .
ولمّا آلت الخلافة من بعده إلى صاحبه الصّدّيق ، وضعَ الطفيل نفسه وسيفه وولده في طاعة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولمّا نشبت حروب الردّة نفرَ الطفيل في طليعة جيش المسلمين لحربِ مُسيلمة الكذّاب ، ومعه ابنه عمرو .
وفيما هو في طريقه إلى اليمامة رأى رؤيا ، فقال لأصحابه : إنّي رأيت رؤيا فعبّروها لِي .
فقالوا : وما رأيت ؟ .
قال : رأيت أن رأسي قد حُلِقَ ، وأنّ طائراً خرج من فمي ، وأنّ امرأةً أدخلتني في بطنها ، وأنّ ابني عمراً جعل يطلُبني حثيثاً لكنّه حيلَ بيني وبينه .
فقالوا : خَيرَاً ….
فقال : أمّا أنا ـ واللهِ ـ لقد أوّلتها :
أمّا حلق رأسي فذلك أنّه يقطعُ …
وأمّا الطائر الذي خرج من فمِي فهو روحي …
وأمّا المرأة التي أدخلتني في بطنها فهي الأرض تُحفرُ لي فأدفنُ في جوفها … وإنّي لأرجو أن أُقتَل شهيداً …
وأمّا طلبُ ابني لي فهو يعني أنّه يطلب الشهادة التي سأحظى بها ـ إذا أذِنَ الله ـ لكنّه يُدركُها فيما بعد .
* * *
وفي معركة ((اليمامة)) أبلى الصحابيّ الجليل الطفيل بن عمرو الدّوسِيّ أعظم البلاء ، حتّى خرّ صريعاً شهيداً على أرض المعركة .
وأمّا ابنه عمرو فما زال يُقاتِل حتّى أثخنتهُ الجراح وقُطِعت كفّه اليُمنى فعاد إلى المدينة مُخلّفاً على أرض ((اليمامة)) أباه ويدَهُ .
* * *
وفي خلافة عُمر بن الخطّاب ، دخل عليه عمرو بن الطفيل ، فأتِيَ للفاروق بطعام ، والناس جلوس عنده ، فدعا القوم إلى طعامه ، فتنحّى عمرو عنه ، فقال له الفاروق :
ما لَكَ ؟! … لعلّكَ تأخّرتَ عن الطعام خجلاً من يدِكَ .
قال : أجل يا أمير المؤمنين .
قال : واللهِ لا أذوقُ هذا الطعام حتّى تُخلِطَهُ بيدِك المقطوعة …
واللهِ ما في القوم أحدٌ بعضُهُ في الجنّة إلا أنت .. ـ يريد بذلك يدَهُ ـ .
* * *
ظلّ حُلمُ الشهادة يلوحُ لعمرو منذ فارق أباه ، فلمّا كانت معركة ((اليرموك)) بادَرَ إليها عمرو مع المبادرين ، وما زال يُقاتِل حتّى أدرك الشهادة التي منّاهُ بها أبوه .
* * *
رَحِمَ اللهُ الطفيل بن عمرو الدّوسيّ ؛ فهوَ الشهيدُ وأبو الشهيدِ .
المصدر
كتاب صور من حياة الصحابة للدكتورعبد الرحمن رأفت الباشا رحمه الله
………..
الطفيل بن عمرو الدوسي سيد قبيلة ((دَوْسٍ)) في الجاهليّة ، وشريف من أشراف العرب المرموقين ، وواحد من أصحاب المروءات المعدودين …
لا تنزل له قِدرٌ عن نار ، ولا يُوصد له باب أمام طارق …
يُطعم الجائع ، ويُؤمّن الخائف ، ويُجير المُستجير .
وهو إلى ذلك أديب أريب لبيب ، وشاعر مُرهف الحِسّ رقيق الشعور بصير بِحُلوِ البيان ومُرّه … حيث تفعل فيه الكلمة فعل السِّحر .
* * *
غادر الطفيل منازل قومه في ((تِهامَة)) ـ تهامَة: السهل الساحلي في جزيرة العرب المحاذي للبحر الأحمرـ مُتوجهاً إلى مكّة ، ورحى الصراع دائرة بين الرسول الكريم صلوات الله عليه وكفّار قريش ، كلّ يريد أن يكسب لنفسه الأنصار ، ويجتذب لحزبِهِ الأعوان …
فالرسول صلوات الله وسلامه عليه يدعو لربّه وسلاحه الإيمان والحقّ .
وكفّار قريش يقاومون دعوته بكل سلاح ، ويصدّون الناس عنه بكل وسيلة .
ووجدَ الطفيل نفسه يدخل في هذه المعركة على غير أُهبة الاستعداد ، ويخوض غِمارها عن غير قصدٍ …
فهو لم يقدم إلى مكّة لهذا الغرض ، ولا خطر له أمر محمد وقريش قبل ذلك على بال .
ومن هنا كانت للطفيل بن عمرو الدوسي مع هذا الصراع حكاية لا تُنسى ؛ فلنستمع إليها ، فإنها من غرائب القِصص .
* * *
حدّث الطفيل قال :
قدِمتُ مكّة ، فما إن رآني سادة قريش ؛ حتّى أقبلوا عليّ فرحّبوا بي أكرم ترحيب ، وأنزلوني فيهم أعزّ منزل .
ثمّ اجتمع إليّ سادتهم وكُبراؤهم وقالوا : يا طفيل ، إنّك قد قدِمت بلادنا ، وهذا الرجل الذي يزعم أنّه نبيّ قد أفسد أمرنا ومزّق شملنا ، وشتّت جماعتنا ، ونحن إنّما نخشى أن يحِلّ بِك وبزعامَتِك في قومِك ما قد حلّ بنا ، فلا تُكلّم الرجل ، ولا تسمعنّ منه شيئاً ؛ فإنّ له قولاً كالسحر : يُفرّق بين الولد وأبيه ، وبين الأخ وأخيه ، وبين الزوجة وزوجها .
قال الطفيل :
فواللهِ ما زالوا بي يقصّون عليّ من غرائب أخباره ، ويُخوّفونَني على نفسي وقومي بعجائب أفعاله ، حتّى أجمعت أمري على ألا أقترب منه ، وألا أكلّمه أو أسمع منه شيئاً .
ولمّا غدوتُ إلى المسجد للطواف بالكعبة ، والتبرّك بأصنامها التي كنّا إليها نحجّ وإيّاها نعظّم ، حشوتُ في أذنيّ قطناً خوفاً من أن يلامس سمعي شيء من قول محمد .
لكني ما إن دخلت المسجد حتّى وجدته قائماً يُصلّي عند الكعبة صلاةً غير صلاتنا ، ويتعبّد عبادةً غير عبادتنا ، فأسَرنِي مَنظرهُ ، وهزّني عِبادته ، ووجدتُ نفسي أدنو منه شيئاً فشيئاً على غير قصد منّي حتّى أصبحت قريباً منه…
وأبى الله إلا أن يصِلَ إلى سمعي بعضٌ مما يقول ، فسمعتُ كلاماً حسناً ، وقلت في نفسي :
ثكِلتكَ أمّك يا طفيل … إنّك لرجل لبيب شاعر ، وما يخفى عليك الحسن من القبيح ، فما يمنعك أن تسمع من الرجل ما يقول …
فإن كان الذي يأتي به حسناً قبِلته ، وإن كان قبيحاً تركته .
* * *
قال الطفيل : ثمّ مكثتُ حتّى انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته ، فتبعته حتّى إذا دخل داره دخلتُ عليه ، فقلت :
يا محمد ، إنّ قومك قد قالوا لي عنك كذا وكذا ، فواللهِ ما برحوا يخوّفونني من أمرك حتّى سددتُ أذنيّ بقطن لئلا أسمع قولك ، ثمّ أبى الله إلا أن يُسمعني شيئاً منه ، فوجدته حسناً … فاعرِض عليّ أمرك …
فعرض عليّ أمره ، وقرأ لي سورة الإخلاص والفلق ، فواللهِ ما سمعت قولاً أحسن من قوله ، ولا رأيت أمراً أعدل من أمره .
عند ذلك بسطت يدي له ، وشهدت أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله ، ودخلتُ في الإسلام .
* * *
قال الطفيل : ثمّ أقمت في مكّة زمناّ تعلّمت فيه أمور الإسلام وحفظتُ فيه ما تيسّر لي من القرآن ، ولمّا عزمت على العودة إلى قومي قلت :
يا رسول الله ، إني امرؤ مطاع في عشيرتي ، وأنا راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام ، فادع الله أن يجعل لي آية تكون لي عوناً فيما أدعوهم إليه ، فقال : ((اللهم اجعل له آية)) .
فخرجت إلى قومي حتّى إذا كنت في موضع مُشرف على منازلهم وقع نور فيما بين عينيّ مثل المصباح ، فقلت :
اللهم اجعله في غير وجهي ، فإنّي أخشى أن يظنّوا أنّها عقوبة وقعت في وجهي لمفارقة دينهم … فتحوّل النّور فوقّع في رأس سوطي ، فجعل الناس يتراءون ذلك النّور في سوطي كالقنديل المُعلّق ، وأنا أهبط إليهم من الثنيّة ـ الثنيّة: العقبة وهي الفرجة بين جبلين ـ فلمّا نزلت ، أتاني أبي ـ وكان شيخاً كبيراً ـ فقلت :
إليك عني يا أبتِ ، فلست منك ولستَ منّي .
قال : ولمَ يا بُنيّ ؟! … قلتُ : لقد أسلمت ، وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم .
قال : أي بنيّ ، ديني دينك ، فقلت : اذهب واغتسل وطهّر ثيابك ، ثمّ تعال حتّى أعلمك ما عُلمتُ .
فذهب فاغتسل وطهّر ثيابه ، ثمّ جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم . ثمّ جاءت زوجتي ، فقلتُ : إليك عنّي فلستُ منكِ ولست منّي .
قالت : ولِمَ ؟! بأبي أنتَ وأمّي ، فقلتُ : فرّق بيني وبينك الإسلام ، فقد أسلمتُ ، وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم .
قالت : فديني دينك ، قلت : فاذهبي فتطهّري من ماء ((ذِي الشّرى)) ـ ذي الشّرى: صنم لدوس حوله ماء يهبط من الجبل ـ .
فقالت : بأبي أنت وأمّي ، أتخشى على الصّبيَة شيئاً من ((ذي الشّرى)) ؟! .
فقلت : تبّاً لكِ ولذي الشّرى … قلتُ لكِ : اذهبي واغتسلي هناك بعيداً عن الناس ، وأنا ضامن لكِ ألا يفعل هذا الحجر الأصمّ شيئاً .
فذهَبَت فاغتسَلت ، ثمّ جاءت ؛ فعرضتُ عليها الإسلام فأسلمت .
ثمّ دعوت ((دوساً)) فأبطؤوا عليّ إلا أبا هريرة فقد كان أسرع الناس إسلاماً .
* * *
قال الطفيل :
فجئتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكّة ، ومعي أبو هريرة …
فقال لي النبيّ عليه الصلاة والسلام : ((ما وراءكَ يا طفيل ؟)) .
فقلتُ : قلوب عليها أكنّة وكفر شديد … لقد غلبَ على دوس الفسوق والعِصيان …
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضّأ وصلّى ورفع يده إلى السماء ، قال أبو هريرة : فلمّا رأيته كذلك خِفت أن يدعو على قومي فيهلكوا … فقلت : واقوماه …
لكنّ الرسول صلوات الله عليه جعل يقول :
((اللهمّ اهدِ دَوْساً … اللهمّ اهدِ دَوْساً … اللهمّ اهدِ دَوْساً)) .
ثمّ التفتَ إلى الطفيل وقال :
((ارجع إلى قومك وارْفْق بهم وادعُهم إلى الإسلام)) .
* * *
قال الطفيل : فلم أزل بأرض ((دوس)) أدعوهم إلى الإسلام حتّى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، ومضت بدر ، وأُحُد ، والخندق ، فقدِمتُ على النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعي ثمانون بيتاً من ((دوس)) أسلموا وحسُنَ إسلامهم ؛ فسرّ بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأسهم لنا مع المسلمين من غنائم ((خيبر)) فقلنا : يا رسول الله : اجْعلنا مَيمَنَتَكَ في كلّ غزوة تغزوها ، واجعل شعارنا : ((مَبرور)) .
قال الطفيل : ثمّّ لم أزل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى فتح الله عليه مكّة ، فقلت :
يا رسول الله ، ابعثني إلى ((ذي الكَفَينِ)) صنم عمرو بن حممة حتّى أحرِقه … فأذِنَ له النبيّ عليه الصلاة والسلام ؛ فسار إلى الصنم في سريّة من قومه .
فلمّا بلغه ، وهمّ بإحراقه اجتمع حوله النساء والرجال والأطفال يتربّصون به الشرّ ، وينتظرون أن تصعقه صاعقة إن هو نال ((ذا الكفين)) بِضُرّ .
لكنّ الطفيل أقبل على الصنم على مشهد من عُبّاده … وجعل يُضرم النار في فُؤاده … وهو يرتجز :
يا ذا الكَفَينِ لستُ مِن عُبّادِكَا
مِيلادُنَا أقدمُ مِن مِيلادِكَا
إنّي حَشَوتُ النّارَ في فُؤادِكَا
وما إن التهمت النّار الصّنم حتّى التهمت معها ما تبقّى من الشرك في قبيلة ((دوس)) ؛ فأسلم القوم جميعاً وحسُنَ إسلامهم .
* * *
ظلّ الطفيل بن عمرو الدوسي بعد ذلك مُلازماً لرسول الله صلوات الله عليه ، حتّى قبضَ النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربّه .
ولمّا آلت الخلافة من بعده إلى صاحبه الصّدّيق ، وضعَ الطفيل نفسه وسيفه وولده في طاعة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولمّا نشبت حروب الردّة نفرَ الطفيل في طليعة جيش المسلمين لحربِ مُسيلمة الكذّاب ، ومعه ابنه عمرو .
وفيما هو في طريقه إلى اليمامة رأى رؤيا ، فقال لأصحابه : إنّي رأيت رؤيا فعبّروها لِي .
فقالوا : وما رأيت ؟ .
قال : رأيت أن رأسي قد حُلِقَ ، وأنّ طائراً خرج من فمي ، وأنّ امرأةً أدخلتني في بطنها ، وأنّ ابني عمراً جعل يطلُبني حثيثاً لكنّه حيلَ بيني وبينه .
فقالوا : خَيرَاً ….
فقال : أمّا أنا ـ واللهِ ـ لقد أوّلتها :
أمّا حلق رأسي فذلك أنّه يقطعُ …
وأمّا الطائر الذي خرج من فمِي فهو روحي …
وأمّا المرأة التي أدخلتني في بطنها فهي الأرض تُحفرُ لي فأدفنُ في جوفها … وإنّي لأرجو أن أُقتَل شهيداً …
وأمّا طلبُ ابني لي فهو يعني أنّه يطلب الشهادة التي سأحظى بها ـ إذا أذِنَ الله ـ لكنّه يُدركُها فيما بعد .
* * *
وفي معركة ((اليمامة)) أبلى الصحابيّ الجليل الطفيل بن عمرو الدّوسِيّ أعظم البلاء ، حتّى خرّ صريعاً شهيداً على أرض المعركة .
وأمّا ابنه عمرو فما زال يُقاتِل حتّى أثخنتهُ الجراح وقُطِعت كفّه اليُمنى فعاد إلى المدينة مُخلّفاً على أرض ((اليمامة)) أباه ويدَهُ .
* * *
وفي خلافة عُمر بن الخطّاب ، دخل عليه عمرو بن الطفيل ، فأتِيَ للفاروق بطعام ، والناس جلوس عنده ، فدعا القوم إلى طعامه ، فتنحّى عمرو عنه ، فقال له الفاروق :
ما لَكَ ؟! … لعلّكَ تأخّرتَ عن الطعام خجلاً من يدِكَ .
قال : أجل يا أمير المؤمنين .
قال : واللهِ لا أذوقُ هذا الطعام حتّى تُخلِطَهُ بيدِك المقطوعة …
واللهِ ما في القوم أحدٌ بعضُهُ في الجنّة إلا أنت .. ـ يريد بذلك يدَهُ ـ .
* * *
ظلّ حُلمُ الشهادة يلوحُ لعمرو منذ فارق أباه ، فلمّا كانت معركة ((اليرموك)) بادَرَ إليها عمرو مع المبادرين ، وما زال يُقاتِل حتّى أدرك الشهادة التي منّاهُ بها أبوه .
* * *
رَحِمَ اللهُ الطفيل بن عمرو الدّوسيّ ؛ فهوَ الشهيدُ وأبو الشهيدِ .
المصدر
كتاب صور من حياة الصحابة للدكتورعبد الرحمن رأفت الباشا رحمه الله
الإثنين ديسمبر 09, 2019 2:56 am من طرف ^_^amdian^_^
» مدينة رسول الله وفضائلها
الخميس أغسطس 21, 2014 11:00 pm من طرف ام هنا
» مايحتاجه جسم المؤمن من طعام
الخميس أغسطس 21, 2014 10:53 pm من طرف ام هنا
» كيف أجعل زوجي يطيعني ,,,طريقة ناجحة
الخميس أغسطس 21, 2014 10:52 pm من طرف ام هنا
» خواطر حزينة
الخميس أغسطس 21, 2014 10:50 pm من طرف ام هنا
» الاخوه فى الله عز وجل
الخميس أغسطس 21, 2014 10:26 pm من طرف ام هنا
» طريقة للزواج العاجل والسريع للبنت
الأربعاء فبراير 26, 2014 1:02 pm من طرف مشاعل
» سلسله افلام على الكسار DSRip
الأحد فبراير 02, 2014 8:38 am من طرف eigle
» فضل يوم عرفه
الإثنين أكتوبر 14, 2013 10:52 am من طرف وليد السيد محمد
» الاخوه فى الله عز وجل
الأربعاء سبتمبر 25, 2013 11:23 pm من طرف وليد السيد محمد
» الاخوه فى الله عز وجل
الأربعاء سبتمبر 25, 2013 10:43 pm من طرف وليد السيد محمد
» حياة القرآن اجمل حياه
الثلاثاء سبتمبر 24, 2013 12:06 am من طرف وليد السيد محمد
» تلبيا لرغبات الاعضاء فيلم" البحث عن نيمو" مدبلج بالعربية
الإثنين سبتمبر 23, 2013 12:22 am من طرف عاشقه عبودي
» طلب طلب طلب طلب
الإثنين سبتمبر 23, 2013 12:17 am من طرف عاشقه عبودي
» سندريلا الجزء الاول مدبلج بالعربية
الإثنين سبتمبر 23, 2013 12:08 am من طرف عاشقه عبودي
» اكواد كول تون البوم اليسا الجديد {تصدق بمين}
الأحد سبتمبر 22, 2013 11:50 pm من طرف عاشقه عبودي
» معلومات غريبة ومفيدة
الأحد أغسطس 04, 2013 5:54 am من طرف اميرة احمد
» فوائد بيض الارانب!!!
الأحد أغسطس 04, 2013 5:47 am من طرف اميرة احمد
» عضو جديد أود التعارف
الثلاثاء يونيو 11, 2013 10:29 am من طرف ايلين الخيال
» الشيخ محمد العريفي :أيقظ غيرك .معلومات رائعة
الأحد أبريل 28, 2013 5:16 pm من طرف ام هنا
» وصفه لتخسيس البطن
السبت أبريل 27, 2013 10:56 am من طرف ام هنا
» بجد مفيش حاجة فى الدنيا نزعل عليها
الجمعة أبريل 26, 2013 4:37 pm من طرف ام هنا
» هل تعلم ان ...
الإثنين أبريل 22, 2013 1:09 pm من طرف ام هنا
» هل تعلم ان الرعد***
الأربعاء أبريل 17, 2013 8:12 pm من طرف ام هنا
» قالوا عن المراة
الثلاثاء أبريل 16, 2013 9:03 pm من طرف ام هنا
» معلومات عن التمر صدمتنى
الإثنين أبريل 15, 2013 11:32 pm من طرف ام هنا
» خواطر كن كما انت
الإثنين أبريل 15, 2013 5:50 pm من طرف ام هنا
» اربعون حديثا قدسيا واربعون حديثا من الاذكار
الإثنين أبريل 15, 2013 5:29 pm من طرف ام هنا
» انا والحزن
الأحد أبريل 14, 2013 6:30 pm من طرف ام هنا
» هل انت فى نعمة
الأحد أبريل 14, 2013 6:22 pm من طرف ام هنا