سالم.. مولى أبي حذيفة
بَلْ نِعْمَ حَامِلُ القرآن!
أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه يوماً؛ فقال:
((خذوا القرآن مِنْ أربعةٍ: عبد الله بن مسعود.. وسالم مولى أبي حذيفة.. وأُبيّ بن كعب.. ومُعاذ بن جبل.. ))
ولقد التقينا من قبل بابن مسعود، وأُبيّ، ومعاذ..
فمن هذا الصحابي الرّابع الذي جعله الرسول صلى الله عليه وسلم حُجَّةً في تعليم القرآن ومرجعاً..؟؟
إنّه ((سالم مولى أبي حُذيفة)) ..
كان عبداً رقيقاً، رفع الإسلام من شأنه حتّى جعل منه ابناً لواحد من كبار المسلمين، كان قبل إسلامه شريفاً من أشراف قريش، وزعيماً من زعمائها..
ولمّا أبطل الإسلام عادة التّبنّي صار أخاً، ورفيقاً، ومولىً للّذي كان يتبنّاه؛ وهو الصّحابيّ الجليل: ((أبو حُذيفة بن عُتبة))..
وبفضل من الله ونعمةٍ على ((سالم)) بلغ بين المسلمين شأناً رفيعاً وعالياً، أهّلته له فضائل رُوحه، وسلوكه، وتقواه.. وعُرِفَ الصّحابيّ الجليل بهذه التّسمية: ((سالم مولى أبي حُذيفة)).. ذلك أنّه كان رقيقاً وأُعتِق..
وآمن بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم إيماناً مُبكّراً.. وأخذ مكانه بين السابقين الأوّلين..
وكان حذيفة بن عتبة قد باكَر هو الآخر، وسارع إلى الإسلام تاركاً أباه ((عُتبة بن ربيعة)) يجترّ مغايظه وهمومه الّتي عكّرت صفو حياته؛ بسبب إسلام ابنه الّذي كان وجيهاً في قومه، وكان أبوه يُعدُّه للزعامة في قريش..
وتبنّى ((أبو حذيفة)) ((سالماً)) بعد عتقه، وصار يُدعى بـ ((سالم بن أبي حذيفة))..
وراح الاثنان يعبدان ربَّهما في إخباتٍ، وخشوع.. ويصبران أعظم الصّبر على أذى قريش وكيدها..
وذات يوم نزلت آية القرآن الّتي تبطل عادة التّبنّي..
وعاد كلّ مُتبنّى ليحمل اسم أبيه الحقيقيّ الّذي وَلده وأنجبه..
فـ ((زيد بن حارثة)) - مثلاً- الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبنّاه، وعُرفَ بين المسلمين ((زيد بن محمد))، يحمل اسم أبيه ((حارثة))؛ فصار يُدعى ((زيد بن حارثة))، ولكنّ ((سالماً)) لم يكن يُعرف له أب؛ فوالى أبا حذيفة، وصار يُدعى ((سالم مولى أبي حذيفة))..
ولعلّ الإسلام حين أبطل عادة التّبنّي؛ إنّما أراد أن يقول للمسلمين: لا تلتمسوا رَحِماً، ولا قُربى، ولا صلة توكّدون بها إخاءكم أكبر ولا أقوى من الإسلام نفسه.. والعقيدة التي يجعلكم بها إخواناً..!!
ولقد فهم المسلمون الأوائل هذا جيداً..
فلم يكن شيء أحبّ إلى أحدهم بعد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من إخوانهم في الله، وفي الإسلام..
ولقد رأينا كيف استقبل الأنصار إخوانهم المهاجرين؟ فشاطروهم أموالهم، ومساكنهم، وكلّ ما يملكون..!!
وهذا هو الذي رأيناه يحدث بين ((أبي حذيفة)) الشّريف في قريش مع ((سالم)) الذي كان عبداً رقيقاً لا يُعرف أبوه..
لقد ظلا إلى آخر لحظة في حياتيهما أكثر من أخوين شقيقين ـ حتى عند الموت ـ ماتا معاً ..
الرّوح مع الرّوح.. والجسد إلى جوار الجسد..!!
تلك عظمة الإسلام الفريدة..
بل تلك واحدة من عظائمه، ومزاياه..!!
* * *
لقد آمن ((سالم)) إيمان الصّادقين.. وسلك طريقه إلى الله سلوك الأبرار المتّقين..
فلم يعد لحسبه، ولا لموضعه من المجتمع أيّ اعتبار..
لقد ارتفع بتقواه وبإخلاصه إلى أعلى مراتب المجتمع الجديد، الذي جاء الإسلام يُقيمه ويُنهضُه على أساس جديد عادل وعظيم..
أساس تُلخّصه الآية الجليلة:
]إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[ [الحجرات: 13]
والحديث الشريف: ((ليس لعربيّ على عجميّ فضلٌ إلا بالتّقوى))..
و((ليس لابن البيضاء على ابن السّوداء فضل إلا بالتّقوى))..!!
* * *
في هذا المجتمع الجديد الرّشيد، وجد أبو حذيفة شرفاً لنفسه أن يوالي من كان بالأمس عبداً .. بل ووجد شرفاً لأسرته أن يزوّج ((سالماً)) ابنة أخيه ((فاطمة بنت الوليد بن عُتبة))..!!
وفي هذا المجتمع الجديد الرّشيد، الذي هدّم الطّبقيّة الظالمة، وأبطل التّمايز الكاذب، وجد ((سالم))؛ بسبب صِدقه، وإيمانه، وبلائه، وجد نفسه في الصّفّ الأوّل دوماً..!!
أجل.. لقد كان إماماً للمهاجرين من مكّة إلى المدينة طوال صلاتهم في مسجد قباء..!!
وكان ((حُجّةً)) في كتاب الله، حتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يتعلّموا منه ..!!
وكان معه من الخير، والتفوّق ما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يقول له:
((الحمد لله الذي جعل في أمَّتي مِثلكَ))..!!
وحتى كان إخوانه المؤمنون يسمّونه: ((سالم من الصالحين))..!!
إنّ قصّة ((سالم)): كقصّة ((بلال))، وكقصّة عشرات العبيد، والفقراء الذين نفض الإسلام عنهم عوادي الرّقّ والضعف، وجعلهم في مجتمع الهدى والرّشاد أئمّة، وزعماء، وقادة.
* * *
كان سالم مُلتقىً لكلّ فضائل الإسلام الرّشيد..
كانت الفضائل تزدحم فيه وحوله.. وكان إيمانه العميق الصادق ينسّقُها أجمل تنسيق.
وكان من أبرز مزاياه، الجهر بما يراه حقّاً..
إنّه لا يعرف الصمت تجاه كلمة يرى من واجبه أن يقولها..
ولا يخون الحياة بالسّكوت عن خطأٍ يؤودها..
* * *
بعد أن فتحت مكّة للمسلمين، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض السّرايا إلى ما حول مكّة من قرى وقبائل، وأخبرهم أنّه صلى الله عليه وسلم إنّما يبعث بهم دعاة، لا مقاتلين..
وكان على رأس إحدى هذه السّرايا ((خالد بن الوليد))..
وحين بلغ ((خالد)) وجهته، حدث ما جعله يستعمل السيف، ويريق الدم..
هذه الواقعة التي عندما سمع النبي صلى الله عليه وسلم نبأها؛ اعتذر إلى ربّه طويلاً، وهو يقول:
((اللهم إنّي أبرَأ إليك ممّا صنع خالد))..!!
والتي ظل أمير المؤمنين ((عمر)) يذكرها له، ويأخذها عليه، ويقول: ((إنّ في سيف خالد رهقاً))..
وكان يصحب ((خالداً)) في هذه السرية ((سالم مولى أبي حذيفة)) مع غيره من الأصحاب..
ولم يكد ((سالم)) يرى صنيع ((خالد))؛ حتى واجهه بمناقشة حامية، وراح يعدّد له الأخطاء التي ارتكِبت..
و((خالد)) القائد، والبطل العظيم في الجاهلية والإسلام، يُنصت مرة، ويدافع عن نفسه مرة ثانية، ويشتد في القول مرة ثالثة، و((سالم)) مستمسك برأيه، يعلنه في غير تهيّب أو مدارارة..
لم يكن ((سالم)) آنئذ ينظر إلى ((خالد)) كشريف من أشراف مكّة.. بينما هو من كان بالأمس القريب رقيقاً.
لا.. فقد سوّى الإسلام بينهما..!!
ولم يكن ينظر إليه؛ كقائد تقدّس أخطاؤه.. بل كشريك في المسؤولية والواجب..!!
ولم يكن يصدر في معارضته خالداً عن غرض، أو شهوة، بل هي النصيحة التي قدّس الإسلام حقّها، والتي طالما سمع نبيّه صلى الله عليه وسلم يجعلها قوام الدين كلّه حين يقول:
((الدِّين النّصيحة..
((الدِّين النّصيحة.. الدِّين النّصيحة)) .
* * *
ولقد سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عندما بلغه صنيع ((خالد بن الوليد))..
سأل عليه السلام قائلاً:
((هَل أنكرَ عليه أحد)) ..؟؟
ما أجلَّه سؤالاً، وما أروعه..؟؟!!
وسكَن غضبه عليه السلام، حين قالوا له:
((نعم.. راجَعَهُ ـ سالم ـ وعارضَهُ))..
وعاش سالم مع رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين..
لا يتخلّف عن غزوة، ولا يقعد عن عبادة..
وكان إخاؤه مع أبي حذيفة يزداد مع الأيام تفانياً وتماسكاً..
* * *
وانتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى..
وواجهت خلافة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ مؤامرات المرتدّين.
وجاء يوم اليمامة ..
وكانت حرباً رهيبة؛ لم يُبتَلَ الإسلام بمثلها..
وخرج المسلمون للقتال..
وخرج سالم وأخوه في الله أبو حذيفة..
وفي بدء المعركة لم يصمد المسلمون للهجوم.. وأحسّ كل مؤمن هناك أنّ المعركة معركتُهُ.. والمسؤولية مسؤوليّتُهُ..
وجمعهم ((خالد بن الوليد)) من جديد..
وأعاد تنسيق الجيش بعبقريّة مذهلة..
وتعانق الأخوان أبو حذيفة وسالم، وتعاهدا على الشّهادة في سبيل الدّين الحقّ الذي وهبهما سعادة الدنيا والآخرة..
وقذفا نفسيهما في الخِضَمّ الرّهيب..!!
كان أبو حذيفة ينادي:
((يا أهل القرآن.. زيّنوا القرآن بأعمالكم)).
وسيفه يضرب؛ كالعاصفة في جيش مسيلمة الكذّاب.
وكان سالم يصيح:
((بئس حامل القرآن أنا.. لو هوجم المسلمون من قِبَلي))..!!
حاشاك يا سالم.. بل نِعمَ حامل القرآن أنت..!!
وكان سيفه صوّالاً في أعناق المرتدّين الذين هبّوا ليعيدوا جاهليّة قريش.. ويطفؤوا نور الإسلام.
وهوى سيف من سيوف الردّة على يمناه؛ فبترها.. وكان يحمل بها راية المهاجرين بعد أن سقط حاملها ((زيد بن الخطاب))..
ولما رأى يُمناه تُبتر التقط بيُسراه، وظلّ يُلوّح بها إلى أعلى، وهو يصيح تالياً الآية الكريمة:
]وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ[ [آل عمران: 146]
ألا أعظِم به من شعار.. ذلك الذي اختاره يوم الموت شعاراً له..!!
* * *
وأحاطت به غاشية من المرتدّين؛ فسقط البطل.. ولكن روحه ظلّت تتردّد في جسده الطّاهر، حتّى انتهت المعركة بقتل ((مسيلمة الكذاب))، واندحار جيشه، وانتصار المسلمين..
وبينما المسلمون يتفقّدون ضحاياهم وشهداءهم وجدوا سالماً في النّزع الأخير..
وسألهم:
ما فعل أبو حذيفة..؟؟
قالوا: استشهدَ..
قال: فأضجِعُوني إلى جواره..
قالوا: إنّه إلى جوارك يا سالم.. لقد استُشهدَ في نفس المكان..!!
* * *
وابتسم ابتسامته الأخيرة..
ولم يعد يتكلّم..!!
لقد أدرك هو وصاحبه ما كانا يرجوان..!!
معاً أسلما..
ومعاً عاشا..
ومعاً استُشهدا..
يا لروعة الحظوظ، وجمال المقادير..!!
* * *
وذهب إلى الله، ذلك المؤمن الكبير الذي قال عنه ((عمر بن الخطاب))، وهو يموت:
((لو كان ((سالم)) حيّاً؛ لوَلّيته الأمر من بعدي))..!!
المصدر
كتاب رجال حول الرسول *صلى الله عليه وسلم* للمؤلف خالد محمد خالد
بَلْ نِعْمَ حَامِلُ القرآن!
أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه يوماً؛ فقال:
((خذوا القرآن مِنْ أربعةٍ: عبد الله بن مسعود.. وسالم مولى أبي حذيفة.. وأُبيّ بن كعب.. ومُعاذ بن جبل.. ))
ولقد التقينا من قبل بابن مسعود، وأُبيّ، ومعاذ..
فمن هذا الصحابي الرّابع الذي جعله الرسول صلى الله عليه وسلم حُجَّةً في تعليم القرآن ومرجعاً..؟؟
إنّه ((سالم مولى أبي حُذيفة)) ..
كان عبداً رقيقاً، رفع الإسلام من شأنه حتّى جعل منه ابناً لواحد من كبار المسلمين، كان قبل إسلامه شريفاً من أشراف قريش، وزعيماً من زعمائها..
ولمّا أبطل الإسلام عادة التّبنّي صار أخاً، ورفيقاً، ومولىً للّذي كان يتبنّاه؛ وهو الصّحابيّ الجليل: ((أبو حُذيفة بن عُتبة))..
وبفضل من الله ونعمةٍ على ((سالم)) بلغ بين المسلمين شأناً رفيعاً وعالياً، أهّلته له فضائل رُوحه، وسلوكه، وتقواه.. وعُرِفَ الصّحابيّ الجليل بهذه التّسمية: ((سالم مولى أبي حُذيفة)).. ذلك أنّه كان رقيقاً وأُعتِق..
وآمن بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم إيماناً مُبكّراً.. وأخذ مكانه بين السابقين الأوّلين..
وكان حذيفة بن عتبة قد باكَر هو الآخر، وسارع إلى الإسلام تاركاً أباه ((عُتبة بن ربيعة)) يجترّ مغايظه وهمومه الّتي عكّرت صفو حياته؛ بسبب إسلام ابنه الّذي كان وجيهاً في قومه، وكان أبوه يُعدُّه للزعامة في قريش..
وتبنّى ((أبو حذيفة)) ((سالماً)) بعد عتقه، وصار يُدعى بـ ((سالم بن أبي حذيفة))..
وراح الاثنان يعبدان ربَّهما في إخباتٍ، وخشوع.. ويصبران أعظم الصّبر على أذى قريش وكيدها..
وذات يوم نزلت آية القرآن الّتي تبطل عادة التّبنّي..
وعاد كلّ مُتبنّى ليحمل اسم أبيه الحقيقيّ الّذي وَلده وأنجبه..
فـ ((زيد بن حارثة)) - مثلاً- الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبنّاه، وعُرفَ بين المسلمين ((زيد بن محمد))، يحمل اسم أبيه ((حارثة))؛ فصار يُدعى ((زيد بن حارثة))، ولكنّ ((سالماً)) لم يكن يُعرف له أب؛ فوالى أبا حذيفة، وصار يُدعى ((سالم مولى أبي حذيفة))..
ولعلّ الإسلام حين أبطل عادة التّبنّي؛ إنّما أراد أن يقول للمسلمين: لا تلتمسوا رَحِماً، ولا قُربى، ولا صلة توكّدون بها إخاءكم أكبر ولا أقوى من الإسلام نفسه.. والعقيدة التي يجعلكم بها إخواناً..!!
ولقد فهم المسلمون الأوائل هذا جيداً..
فلم يكن شيء أحبّ إلى أحدهم بعد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من إخوانهم في الله، وفي الإسلام..
ولقد رأينا كيف استقبل الأنصار إخوانهم المهاجرين؟ فشاطروهم أموالهم، ومساكنهم، وكلّ ما يملكون..!!
وهذا هو الذي رأيناه يحدث بين ((أبي حذيفة)) الشّريف في قريش مع ((سالم)) الذي كان عبداً رقيقاً لا يُعرف أبوه..
لقد ظلا إلى آخر لحظة في حياتيهما أكثر من أخوين شقيقين ـ حتى عند الموت ـ ماتا معاً ..
الرّوح مع الرّوح.. والجسد إلى جوار الجسد..!!
تلك عظمة الإسلام الفريدة..
بل تلك واحدة من عظائمه، ومزاياه..!!
* * *
لقد آمن ((سالم)) إيمان الصّادقين.. وسلك طريقه إلى الله سلوك الأبرار المتّقين..
فلم يعد لحسبه، ولا لموضعه من المجتمع أيّ اعتبار..
لقد ارتفع بتقواه وبإخلاصه إلى أعلى مراتب المجتمع الجديد، الذي جاء الإسلام يُقيمه ويُنهضُه على أساس جديد عادل وعظيم..
أساس تُلخّصه الآية الجليلة:
]إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[ [الحجرات: 13]
والحديث الشريف: ((ليس لعربيّ على عجميّ فضلٌ إلا بالتّقوى))..
و((ليس لابن البيضاء على ابن السّوداء فضل إلا بالتّقوى))..!!
* * *
في هذا المجتمع الجديد الرّشيد، وجد أبو حذيفة شرفاً لنفسه أن يوالي من كان بالأمس عبداً .. بل ووجد شرفاً لأسرته أن يزوّج ((سالماً)) ابنة أخيه ((فاطمة بنت الوليد بن عُتبة))..!!
وفي هذا المجتمع الجديد الرّشيد، الذي هدّم الطّبقيّة الظالمة، وأبطل التّمايز الكاذب، وجد ((سالم))؛ بسبب صِدقه، وإيمانه، وبلائه، وجد نفسه في الصّفّ الأوّل دوماً..!!
أجل.. لقد كان إماماً للمهاجرين من مكّة إلى المدينة طوال صلاتهم في مسجد قباء..!!
وكان ((حُجّةً)) في كتاب الله، حتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يتعلّموا منه ..!!
وكان معه من الخير، والتفوّق ما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يقول له:
((الحمد لله الذي جعل في أمَّتي مِثلكَ))..!!
وحتى كان إخوانه المؤمنون يسمّونه: ((سالم من الصالحين))..!!
إنّ قصّة ((سالم)): كقصّة ((بلال))، وكقصّة عشرات العبيد، والفقراء الذين نفض الإسلام عنهم عوادي الرّقّ والضعف، وجعلهم في مجتمع الهدى والرّشاد أئمّة، وزعماء، وقادة.
* * *
كان سالم مُلتقىً لكلّ فضائل الإسلام الرّشيد..
كانت الفضائل تزدحم فيه وحوله.. وكان إيمانه العميق الصادق ينسّقُها أجمل تنسيق.
وكان من أبرز مزاياه، الجهر بما يراه حقّاً..
إنّه لا يعرف الصمت تجاه كلمة يرى من واجبه أن يقولها..
ولا يخون الحياة بالسّكوت عن خطأٍ يؤودها..
* * *
بعد أن فتحت مكّة للمسلمين، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض السّرايا إلى ما حول مكّة من قرى وقبائل، وأخبرهم أنّه صلى الله عليه وسلم إنّما يبعث بهم دعاة، لا مقاتلين..
وكان على رأس إحدى هذه السّرايا ((خالد بن الوليد))..
وحين بلغ ((خالد)) وجهته، حدث ما جعله يستعمل السيف، ويريق الدم..
هذه الواقعة التي عندما سمع النبي صلى الله عليه وسلم نبأها؛ اعتذر إلى ربّه طويلاً، وهو يقول:
((اللهم إنّي أبرَأ إليك ممّا صنع خالد))..!!
والتي ظل أمير المؤمنين ((عمر)) يذكرها له، ويأخذها عليه، ويقول: ((إنّ في سيف خالد رهقاً))..
وكان يصحب ((خالداً)) في هذه السرية ((سالم مولى أبي حذيفة)) مع غيره من الأصحاب..
ولم يكد ((سالم)) يرى صنيع ((خالد))؛ حتى واجهه بمناقشة حامية، وراح يعدّد له الأخطاء التي ارتكِبت..
و((خالد)) القائد، والبطل العظيم في الجاهلية والإسلام، يُنصت مرة، ويدافع عن نفسه مرة ثانية، ويشتد في القول مرة ثالثة، و((سالم)) مستمسك برأيه، يعلنه في غير تهيّب أو مدارارة..
لم يكن ((سالم)) آنئذ ينظر إلى ((خالد)) كشريف من أشراف مكّة.. بينما هو من كان بالأمس القريب رقيقاً.
لا.. فقد سوّى الإسلام بينهما..!!
ولم يكن ينظر إليه؛ كقائد تقدّس أخطاؤه.. بل كشريك في المسؤولية والواجب..!!
ولم يكن يصدر في معارضته خالداً عن غرض، أو شهوة، بل هي النصيحة التي قدّس الإسلام حقّها، والتي طالما سمع نبيّه صلى الله عليه وسلم يجعلها قوام الدين كلّه حين يقول:
((الدِّين النّصيحة..
((الدِّين النّصيحة.. الدِّين النّصيحة)) .
* * *
ولقد سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عندما بلغه صنيع ((خالد بن الوليد))..
سأل عليه السلام قائلاً:
((هَل أنكرَ عليه أحد)) ..؟؟
ما أجلَّه سؤالاً، وما أروعه..؟؟!!
وسكَن غضبه عليه السلام، حين قالوا له:
((نعم.. راجَعَهُ ـ سالم ـ وعارضَهُ))..
وعاش سالم مع رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين..
لا يتخلّف عن غزوة، ولا يقعد عن عبادة..
وكان إخاؤه مع أبي حذيفة يزداد مع الأيام تفانياً وتماسكاً..
* * *
وانتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى..
وواجهت خلافة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ مؤامرات المرتدّين.
وجاء يوم اليمامة ..
وكانت حرباً رهيبة؛ لم يُبتَلَ الإسلام بمثلها..
وخرج المسلمون للقتال..
وخرج سالم وأخوه في الله أبو حذيفة..
وفي بدء المعركة لم يصمد المسلمون للهجوم.. وأحسّ كل مؤمن هناك أنّ المعركة معركتُهُ.. والمسؤولية مسؤوليّتُهُ..
وجمعهم ((خالد بن الوليد)) من جديد..
وأعاد تنسيق الجيش بعبقريّة مذهلة..
وتعانق الأخوان أبو حذيفة وسالم، وتعاهدا على الشّهادة في سبيل الدّين الحقّ الذي وهبهما سعادة الدنيا والآخرة..
وقذفا نفسيهما في الخِضَمّ الرّهيب..!!
كان أبو حذيفة ينادي:
((يا أهل القرآن.. زيّنوا القرآن بأعمالكم)).
وسيفه يضرب؛ كالعاصفة في جيش مسيلمة الكذّاب.
وكان سالم يصيح:
((بئس حامل القرآن أنا.. لو هوجم المسلمون من قِبَلي))..!!
حاشاك يا سالم.. بل نِعمَ حامل القرآن أنت..!!
وكان سيفه صوّالاً في أعناق المرتدّين الذين هبّوا ليعيدوا جاهليّة قريش.. ويطفؤوا نور الإسلام.
وهوى سيف من سيوف الردّة على يمناه؛ فبترها.. وكان يحمل بها راية المهاجرين بعد أن سقط حاملها ((زيد بن الخطاب))..
ولما رأى يُمناه تُبتر التقط بيُسراه، وظلّ يُلوّح بها إلى أعلى، وهو يصيح تالياً الآية الكريمة:
]وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ[ [آل عمران: 146]
ألا أعظِم به من شعار.. ذلك الذي اختاره يوم الموت شعاراً له..!!
* * *
وأحاطت به غاشية من المرتدّين؛ فسقط البطل.. ولكن روحه ظلّت تتردّد في جسده الطّاهر، حتّى انتهت المعركة بقتل ((مسيلمة الكذاب))، واندحار جيشه، وانتصار المسلمين..
وبينما المسلمون يتفقّدون ضحاياهم وشهداءهم وجدوا سالماً في النّزع الأخير..
وسألهم:
ما فعل أبو حذيفة..؟؟
قالوا: استشهدَ..
قال: فأضجِعُوني إلى جواره..
قالوا: إنّه إلى جوارك يا سالم.. لقد استُشهدَ في نفس المكان..!!
* * *
وابتسم ابتسامته الأخيرة..
ولم يعد يتكلّم..!!
لقد أدرك هو وصاحبه ما كانا يرجوان..!!
معاً أسلما..
ومعاً عاشا..
ومعاً استُشهدا..
يا لروعة الحظوظ، وجمال المقادير..!!
* * *
وذهب إلى الله، ذلك المؤمن الكبير الذي قال عنه ((عمر بن الخطاب))، وهو يموت:
((لو كان ((سالم)) حيّاً؛ لوَلّيته الأمر من بعدي))..!!
المصدر
كتاب رجال حول الرسول *صلى الله عليه وسلم* للمؤلف خالد محمد خالد
الإثنين ديسمبر 09, 2019 2:56 am من طرف ^_^amdian^_^
» مدينة رسول الله وفضائلها
الخميس أغسطس 21, 2014 11:00 pm من طرف ام هنا
» مايحتاجه جسم المؤمن من طعام
الخميس أغسطس 21, 2014 10:53 pm من طرف ام هنا
» كيف أجعل زوجي يطيعني ,,,طريقة ناجحة
الخميس أغسطس 21, 2014 10:52 pm من طرف ام هنا
» خواطر حزينة
الخميس أغسطس 21, 2014 10:50 pm من طرف ام هنا
» الاخوه فى الله عز وجل
الخميس أغسطس 21, 2014 10:26 pm من طرف ام هنا
» طريقة للزواج العاجل والسريع للبنت
الأربعاء فبراير 26, 2014 1:02 pm من طرف مشاعل
» سلسله افلام على الكسار DSRip
الأحد فبراير 02, 2014 8:38 am من طرف eigle
» فضل يوم عرفه
الإثنين أكتوبر 14, 2013 10:52 am من طرف وليد السيد محمد
» الاخوه فى الله عز وجل
الأربعاء سبتمبر 25, 2013 11:23 pm من طرف وليد السيد محمد
» الاخوه فى الله عز وجل
الأربعاء سبتمبر 25, 2013 10:43 pm من طرف وليد السيد محمد
» حياة القرآن اجمل حياه
الثلاثاء سبتمبر 24, 2013 12:06 am من طرف وليد السيد محمد
» تلبيا لرغبات الاعضاء فيلم" البحث عن نيمو" مدبلج بالعربية
الإثنين سبتمبر 23, 2013 12:22 am من طرف عاشقه عبودي
» طلب طلب طلب طلب
الإثنين سبتمبر 23, 2013 12:17 am من طرف عاشقه عبودي
» سندريلا الجزء الاول مدبلج بالعربية
الإثنين سبتمبر 23, 2013 12:08 am من طرف عاشقه عبودي
» اكواد كول تون البوم اليسا الجديد {تصدق بمين}
الأحد سبتمبر 22, 2013 11:50 pm من طرف عاشقه عبودي
» معلومات غريبة ومفيدة
الأحد أغسطس 04, 2013 5:54 am من طرف اميرة احمد
» فوائد بيض الارانب!!!
الأحد أغسطس 04, 2013 5:47 am من طرف اميرة احمد
» عضو جديد أود التعارف
الثلاثاء يونيو 11, 2013 10:29 am من طرف ايلين الخيال
» الشيخ محمد العريفي :أيقظ غيرك .معلومات رائعة
الأحد أبريل 28, 2013 5:16 pm من طرف ام هنا
» وصفه لتخسيس البطن
السبت أبريل 27, 2013 10:56 am من طرف ام هنا
» بجد مفيش حاجة فى الدنيا نزعل عليها
الجمعة أبريل 26, 2013 4:37 pm من طرف ام هنا
» هل تعلم ان ...
الإثنين أبريل 22, 2013 1:09 pm من طرف ام هنا
» هل تعلم ان الرعد***
الأربعاء أبريل 17, 2013 8:12 pm من طرف ام هنا
» قالوا عن المراة
الثلاثاء أبريل 16, 2013 9:03 pm من طرف ام هنا
» معلومات عن التمر صدمتنى
الإثنين أبريل 15, 2013 11:32 pm من طرف ام هنا
» خواطر كن كما انت
الإثنين أبريل 15, 2013 5:50 pm من طرف ام هنا
» اربعون حديثا قدسيا واربعون حديثا من الاذكار
الإثنين أبريل 15, 2013 5:29 pm من طرف ام هنا
» انا والحزن
الأحد أبريل 14, 2013 6:30 pm من طرف ام هنا
» هل انت فى نعمة
الأحد أبريل 14, 2013 6:22 pm من طرف ام هنا