هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ يبلُغ مشارف يثرب ، بعدَ طُول لهفة وترقب …
وها هم أولاء رجال المدينة الطّيّبة؛ يتزاحمون في الدّروب مُهلّلين مكبّرين فرحاً بلقاء نبيّ الرحمة وصاحِبه الصّدّيق …
وها هُنَّ نِسوةُ المدينة المستقرات في بيوتهن وصباياها الصّغيرات عَلَونَ سطوح المنازل ، وجعلن يتراءينَ الرسول صلى الله عليه وسلم ويقلن :
أيّهم هُوَ؟ … أيّهم هُوَ؟…
وهذا موكب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يتهادى بين الصفوف؛ تحفّه المُهج المُشتاقة ، وتحوطه الأفئدة التّوّاقة ، وتُنثر حواليه دموع الفرح، وبسمات السّرور .
* * *
لكنّ عُقبة بن عامر الجُهنيّ لم يشهد موكب رسول الله صلوات الله عليه ولم يسعد باستقباله مع المُستقبلين .
ذلك ، لأنَّه كان قد خرج إلى البوادي بغُنيمات له؛ ليرعاها هناك، بعد أن اشتدّ عليها الجوع وخاف عليها الهلاك، وهي كلّ ما يملك من حُطام الدنيا - حطام الدنيا: أي مالها الفاني - .
لكنّ الفرحة التي غمرت المدينة المنوّرة ما لبِثت أن عمَّت بواديها القريبة والبعيدة ، وأشرقت في كلّ بقعة من بُقاعها الطّيبة ، وبلغت تباشيرها عقبة بن عامر الجهني ؛ وهو مع غنيماته بعيداً في الفلوات .
فلنترك الكلام لِعقبة بن عامر ليروي لنا قصّة لقائه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال عقبة:
قدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا في غُنيمة لي أرعاها ، فما إن تناهى إليَّ خبر قدومه حتى تركتها ومضيت إليه لا ألوي على شيء، فلمّا لقِيتُهُ قلتُ: تُبايعني يا رسول الله ؟!
قال: ((فمن أنت؟)) .. قلتُ: عقبة بن عامر الجهني، قال صلى الله عليه وسلم : ((أيّما أحبّ إليك: تُبايعني بيعةً أعرابيّةً أو بيعةَ هِجرةٍ ؟)) .
قلتُ: بل بيعة هجرة، فبايعني رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما بايع عليه المُهاجرين، وأقمت معه ليلةً ثمّ مضيت إلى غنمي .
* * *
وكنّا اثني عشر رجلاً ممّن أسلموا نُقيم بعيداً عن المدينة لنرعى أغنامنا في بواديها .
فقال بعضنا لبعض: لا خيرَ فينا إذا نحنُ لم نَقدَم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بعدَ يوم، لِيُفقِّهنا في دِيننا، ويُسمعنا ما ينزل عليه من وحي السّماء، فليمضِ كلّ يومٍ واحد منّا إلى يثرب، وليترك غنمه لنا فنرعاها له .
فقلتُ : اذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً بعد آخر وَليترك لِي الذّاهِب غنمه، لأنّي كنتُ شديد الإشفاق على غُنيمتي من أن أتركها لأحد .
* * *
ثمّ طفِق أصحابي يغدو الواحد منهم بعد الآخر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويترك لي غنمه أرعاها له، فإذا جاء، أخذتُ منه ما سمع، وتلقّيتُ عنه ما فقهَ، لكنّي ما لبِثتُ أن رجعتُ إلى نفسي وقلتُ: وَيحَكَ !! … أمِن أجلِ غُنيمات لا تُسمنُ ولا تُغني تُفوّت على نفسك صُحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأخذ عنه مُشافهةً من غير واسِطةٍ ؟! … ثمّ تخلّيتُ عن غنيماتي، ومضيتُ إلى المدينة لأقيم في المسجد بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم .
* * *
لم يكن عقبة بن عامر الجهني يخطر له على بال -حين اتّخذ هذا القرار الحاسم الحازم - أنّه سيغدو بعد عقدٍ من الزمان عالِماً من أكابر علماء الصّحابة، وقارئاً من شُيوخ القُرّاء، وقائداً من قوّاد الفتح المرموقين، ووالياً من ولاة الإسلام المعدودين .
ولم يكن يتخيّل - مجرّد تخيّل - وهو يتخلّى عن غُنيماته، ويمضي إلى الله ورسوله أنّه سيكون طليعة الجيش الذي يفتح أمّ الدنيا ((دمشق)) ويتّخذ لِنفسه داراً بين رياضِها النّضِرة عندَ ((بابِ توما)) - باب تُوما: أحد أبواب دِمشق القديمة - .
ولم يكن يتصوّر - مجرّد تصوّر - أنّه سيكون أحد القادة الذين سيفتحون زُمرّدة الكون الخضراء ((مِصر))، وأنّه سيغدو والياً عليها، ويختطّ لِنفسه داراً في سفح جبلها ((المُقطّم)) - المقطّم: جبل مطل على القاهرة من جهة الجنوب قليل الارتفاع-؛ فتِلك كلّها أمور مُختبئة في ضمير الغيب، لا يعلمها إلا الله .
* * *
لزمَ عقبة بن عامر الجهني رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوم الظل لصاحبه، فكان يأخذ له بِزمام بغلته أينما سار، ويمضي بين يديه أنّى اتّجه، وكثيراً ما أردفه رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه، حتّى دُعيَ ((برديف رسول الله))، وربّما نزلَ له النبي الكريم صلى الله عليه وسلم عن بغلته ليكون هو الذي يركب، والنبي عليه الصلاة والسلام هو الذي يمشي .
حدّث عقبة قال:
كُنتُ آخذ بِزمام بغلةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غابِ المدينة، فقال لي : ((يا عُقبة، ألا تركب؟!)) فهممتُ أن أقول: لا؛ لكنّي أشفقتُ أن يكون في ذلك معصية لِرسول الله، فقلتُ: نعم يا نبيّ الله، فنزل الرسول صلى الله عليه وسلم عن بغلته وركبتُ أنا امتثالاً لأمره … وجعل هو يمشي . ثمّ ما لبثتُ أن نزلتُ عنها، وركب النبي عليه الصلاة والسلام، ثمّ قال لي : ((يا عقبة ألا أعلّمك سورتين لم يرَ مثلُهنّ قطّ ؟)) فقلتُ: بلى يا رسول الله ، فأقرأني :
]قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ[ وَ ]قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ[
ثمّ أقيمت الصلاة فتقدّم وصلّى بهما ، وقال: ((اقرأهما كلّما نِمتَ وكلّما قُمتَ)) .
قال عقبة: فما زِلتُ أقرؤهما ما امتدّت بي الحياة .
* * *
ولقد جعل عقبة بن عامر الجهنيّ همّه في أمرين اثنين: العِلم والجِهاد، وانصرف إليهما بروحه وجسده، وبذلَ لهما من ذاته أسخى البذل، وأكرمَه .
أمّا في مجال العِلم فقد جعل يعُبُّ من مناهل رسول الله صلى الله عليه وسلم الغزيرة العذبة حتى غدا مُقرِئاً، مُحدّثاً، فقيهاً، فرضيا ً- فرضياً: عالماً بالفرائض، والمقصود بها هنا علم المواريث والتركات - أديباً، فصيحاً، شاعراً .
وكان من أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وكان إذا سكنَ الليل وهدأ الكون انصرف إلى كتاب الله يقرأ من آياته البيّنات، فتُصغي لِترتيله أفئدة الصّحابة الكرام، وتخشع له قلوبهم وتفيضُ عيونهم بالدّمع من خشية الله .
وقد دعاه عمر بن الخطّاب يوماً فقال: اعرِض عليّ شيئاً من كتاب الله يا عقبة، فقال: سمعاً يا أمير المؤمنين، ثمّ جعل يقرأ له ما تيسّر من آي الذّكر الحكيم، وعمرُ يبكي حتّى بلّلت دموعه لِحيته .
وقد ترك عُقبة مصحفاً مكتوباً بخطّ يده، وبقيَ مصحفه هذا إلى عهد غير بعيد موجوداً في ((مِصر)) في الجامع المعروف بجامع عقبة بن عامر، وقد جاء في آخره: ((كَتبهُ عقبة بن عامر الجُهنيّ)) .
ومصحف عقبة هذا من أقدم المصاحف التي وجدت على ظهر الأرض لكنّه فُقِدَ في جملة ما فقِد من تُراثنا الثّمين، ونحنُ عنه غافلون .
* * *
وأمّا في مجال الجهاد؛ فحسبنا أن نعلم أنّ عقبة بن عامر الجهنيّ شهِدَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أُحُداً)) وما بعدها من المغازي، وأنّه كان أحد الكُماة الأشاوس المغاوير، الذين أبلوا يوم فتح ((دِمشق)) أعزّ البلاء وأعظمه، فكافأهُ أبو عبيدة بن الجرّاح على حُسن بلائه بأن بعثهُ بشيراً إلى عمر بن الخطاب في المدينة ليبشّره بالفتح، فظلّ ثمانية أيام بلياليها من الجمعة إلى الجمعة يُغذُّ السير دونَ انقطاع، حتى بشّر الفاروق بالفتح العظيم .
ثمّ إنّه كان أحد قادة جيوش المسلمين التي فتحت ((مِصر))، فكافأهُ أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان بأن جعله والياً عليها ثلاث سنين، ثمّ وجّهه لغزو جزيرة ((رُودُسَ)) في البحر الأبيض المتوسط .
وقد بلغ من ولع عقبة بن عامر الجهنيّ بالجهاد، أنّه وعى أحاديث الجهاد في صدره، واختصّ بروايتها للمسلمين، وأنّه دأب على حذقِ الرّماية حتى إنّه إذا أراد أن يتلهّى تلهّى بالرّمي .
* * *
ولمّا مرِضَ عقبة بن عامر الجهنيّ مرضَ الموت - وهو في ((مِصر)) - جمع بنيه فأوصاهم فقال: يا بنيَّ أنهاكم عن ثلاث خصال فاحتفظوا بِهنَّ:
لا تقبلوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من ثقة، ولا تستدينوا ولو لَبِستم العباء - العباء: كساء مفتوح من الأمام - ، ولا تكتبوا شِعراً فتَشغلوا به قلوبكم عن القرآن .
ولمّا أدركته الوفاة، دفنوه في سفحِ ((المُقطّم)) ثمّ انقلبوا إلى تركتِهِ يُفتّشونها، فإذا هو قد خلّف بضعاً وسبعين قوساً؛ مع كل قوس قرنٌ ونِبالٌ، وقد أوصى بهنّ أن يُجعلنَ في سبيل الله .
* * *
نضّرَ الله وجهَ القارئ العالِم الغازِي عقبة بن عامر الجُهنيّ ، وجزاهُ عن الإسلام والمسلمين خيرَ الجزاء .
وها هم أولاء رجال المدينة الطّيّبة؛ يتزاحمون في الدّروب مُهلّلين مكبّرين فرحاً بلقاء نبيّ الرحمة وصاحِبه الصّدّيق …
وها هُنَّ نِسوةُ المدينة المستقرات في بيوتهن وصباياها الصّغيرات عَلَونَ سطوح المنازل ، وجعلن يتراءينَ الرسول صلى الله عليه وسلم ويقلن :
أيّهم هُوَ؟ … أيّهم هُوَ؟…
وهذا موكب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يتهادى بين الصفوف؛ تحفّه المُهج المُشتاقة ، وتحوطه الأفئدة التّوّاقة ، وتُنثر حواليه دموع الفرح، وبسمات السّرور .
* * *
لكنّ عُقبة بن عامر الجُهنيّ لم يشهد موكب رسول الله صلوات الله عليه ولم يسعد باستقباله مع المُستقبلين .
ذلك ، لأنَّه كان قد خرج إلى البوادي بغُنيمات له؛ ليرعاها هناك، بعد أن اشتدّ عليها الجوع وخاف عليها الهلاك، وهي كلّ ما يملك من حُطام الدنيا - حطام الدنيا: أي مالها الفاني - .
لكنّ الفرحة التي غمرت المدينة المنوّرة ما لبِثت أن عمَّت بواديها القريبة والبعيدة ، وأشرقت في كلّ بقعة من بُقاعها الطّيبة ، وبلغت تباشيرها عقبة بن عامر الجهني ؛ وهو مع غنيماته بعيداً في الفلوات .
فلنترك الكلام لِعقبة بن عامر ليروي لنا قصّة لقائه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال عقبة:
قدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا في غُنيمة لي أرعاها ، فما إن تناهى إليَّ خبر قدومه حتى تركتها ومضيت إليه لا ألوي على شيء، فلمّا لقِيتُهُ قلتُ: تُبايعني يا رسول الله ؟!
قال: ((فمن أنت؟)) .. قلتُ: عقبة بن عامر الجهني، قال صلى الله عليه وسلم : ((أيّما أحبّ إليك: تُبايعني بيعةً أعرابيّةً أو بيعةَ هِجرةٍ ؟)) .
قلتُ: بل بيعة هجرة، فبايعني رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما بايع عليه المُهاجرين، وأقمت معه ليلةً ثمّ مضيت إلى غنمي .
* * *
وكنّا اثني عشر رجلاً ممّن أسلموا نُقيم بعيداً عن المدينة لنرعى أغنامنا في بواديها .
فقال بعضنا لبعض: لا خيرَ فينا إذا نحنُ لم نَقدَم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بعدَ يوم، لِيُفقِّهنا في دِيننا، ويُسمعنا ما ينزل عليه من وحي السّماء، فليمضِ كلّ يومٍ واحد منّا إلى يثرب، وليترك غنمه لنا فنرعاها له .
فقلتُ : اذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً بعد آخر وَليترك لِي الذّاهِب غنمه، لأنّي كنتُ شديد الإشفاق على غُنيمتي من أن أتركها لأحد .
* * *
ثمّ طفِق أصحابي يغدو الواحد منهم بعد الآخر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويترك لي غنمه أرعاها له، فإذا جاء، أخذتُ منه ما سمع، وتلقّيتُ عنه ما فقهَ، لكنّي ما لبِثتُ أن رجعتُ إلى نفسي وقلتُ: وَيحَكَ !! … أمِن أجلِ غُنيمات لا تُسمنُ ولا تُغني تُفوّت على نفسك صُحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأخذ عنه مُشافهةً من غير واسِطةٍ ؟! … ثمّ تخلّيتُ عن غنيماتي، ومضيتُ إلى المدينة لأقيم في المسجد بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم .
* * *
لم يكن عقبة بن عامر الجهني يخطر له على بال -حين اتّخذ هذا القرار الحاسم الحازم - أنّه سيغدو بعد عقدٍ من الزمان عالِماً من أكابر علماء الصّحابة، وقارئاً من شُيوخ القُرّاء، وقائداً من قوّاد الفتح المرموقين، ووالياً من ولاة الإسلام المعدودين .
ولم يكن يتخيّل - مجرّد تخيّل - وهو يتخلّى عن غُنيماته، ويمضي إلى الله ورسوله أنّه سيكون طليعة الجيش الذي يفتح أمّ الدنيا ((دمشق)) ويتّخذ لِنفسه داراً بين رياضِها النّضِرة عندَ ((بابِ توما)) - باب تُوما: أحد أبواب دِمشق القديمة - .
ولم يكن يتصوّر - مجرّد تصوّر - أنّه سيكون أحد القادة الذين سيفتحون زُمرّدة الكون الخضراء ((مِصر))، وأنّه سيغدو والياً عليها، ويختطّ لِنفسه داراً في سفح جبلها ((المُقطّم)) - المقطّم: جبل مطل على القاهرة من جهة الجنوب قليل الارتفاع-؛ فتِلك كلّها أمور مُختبئة في ضمير الغيب، لا يعلمها إلا الله .
* * *
لزمَ عقبة بن عامر الجهني رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوم الظل لصاحبه، فكان يأخذ له بِزمام بغلته أينما سار، ويمضي بين يديه أنّى اتّجه، وكثيراً ما أردفه رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه، حتّى دُعيَ ((برديف رسول الله))، وربّما نزلَ له النبي الكريم صلى الله عليه وسلم عن بغلته ليكون هو الذي يركب، والنبي عليه الصلاة والسلام هو الذي يمشي .
حدّث عقبة قال:
كُنتُ آخذ بِزمام بغلةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غابِ المدينة، فقال لي : ((يا عُقبة، ألا تركب؟!)) فهممتُ أن أقول: لا؛ لكنّي أشفقتُ أن يكون في ذلك معصية لِرسول الله، فقلتُ: نعم يا نبيّ الله، فنزل الرسول صلى الله عليه وسلم عن بغلته وركبتُ أنا امتثالاً لأمره … وجعل هو يمشي . ثمّ ما لبثتُ أن نزلتُ عنها، وركب النبي عليه الصلاة والسلام، ثمّ قال لي : ((يا عقبة ألا أعلّمك سورتين لم يرَ مثلُهنّ قطّ ؟)) فقلتُ: بلى يا رسول الله ، فأقرأني :
]قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ[ وَ ]قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ[
ثمّ أقيمت الصلاة فتقدّم وصلّى بهما ، وقال: ((اقرأهما كلّما نِمتَ وكلّما قُمتَ)) .
قال عقبة: فما زِلتُ أقرؤهما ما امتدّت بي الحياة .
* * *
ولقد جعل عقبة بن عامر الجهنيّ همّه في أمرين اثنين: العِلم والجِهاد، وانصرف إليهما بروحه وجسده، وبذلَ لهما من ذاته أسخى البذل، وأكرمَه .
أمّا في مجال العِلم فقد جعل يعُبُّ من مناهل رسول الله صلى الله عليه وسلم الغزيرة العذبة حتى غدا مُقرِئاً، مُحدّثاً، فقيهاً، فرضيا ً- فرضياً: عالماً بالفرائض، والمقصود بها هنا علم المواريث والتركات - أديباً، فصيحاً، شاعراً .
وكان من أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وكان إذا سكنَ الليل وهدأ الكون انصرف إلى كتاب الله يقرأ من آياته البيّنات، فتُصغي لِترتيله أفئدة الصّحابة الكرام، وتخشع له قلوبهم وتفيضُ عيونهم بالدّمع من خشية الله .
وقد دعاه عمر بن الخطّاب يوماً فقال: اعرِض عليّ شيئاً من كتاب الله يا عقبة، فقال: سمعاً يا أمير المؤمنين، ثمّ جعل يقرأ له ما تيسّر من آي الذّكر الحكيم، وعمرُ يبكي حتّى بلّلت دموعه لِحيته .
وقد ترك عُقبة مصحفاً مكتوباً بخطّ يده، وبقيَ مصحفه هذا إلى عهد غير بعيد موجوداً في ((مِصر)) في الجامع المعروف بجامع عقبة بن عامر، وقد جاء في آخره: ((كَتبهُ عقبة بن عامر الجُهنيّ)) .
ومصحف عقبة هذا من أقدم المصاحف التي وجدت على ظهر الأرض لكنّه فُقِدَ في جملة ما فقِد من تُراثنا الثّمين، ونحنُ عنه غافلون .
* * *
وأمّا في مجال الجهاد؛ فحسبنا أن نعلم أنّ عقبة بن عامر الجهنيّ شهِدَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أُحُداً)) وما بعدها من المغازي، وأنّه كان أحد الكُماة الأشاوس المغاوير، الذين أبلوا يوم فتح ((دِمشق)) أعزّ البلاء وأعظمه، فكافأهُ أبو عبيدة بن الجرّاح على حُسن بلائه بأن بعثهُ بشيراً إلى عمر بن الخطاب في المدينة ليبشّره بالفتح، فظلّ ثمانية أيام بلياليها من الجمعة إلى الجمعة يُغذُّ السير دونَ انقطاع، حتى بشّر الفاروق بالفتح العظيم .
ثمّ إنّه كان أحد قادة جيوش المسلمين التي فتحت ((مِصر))، فكافأهُ أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان بأن جعله والياً عليها ثلاث سنين، ثمّ وجّهه لغزو جزيرة ((رُودُسَ)) في البحر الأبيض المتوسط .
وقد بلغ من ولع عقبة بن عامر الجهنيّ بالجهاد، أنّه وعى أحاديث الجهاد في صدره، واختصّ بروايتها للمسلمين، وأنّه دأب على حذقِ الرّماية حتى إنّه إذا أراد أن يتلهّى تلهّى بالرّمي .
* * *
ولمّا مرِضَ عقبة بن عامر الجهنيّ مرضَ الموت - وهو في ((مِصر)) - جمع بنيه فأوصاهم فقال: يا بنيَّ أنهاكم عن ثلاث خصال فاحتفظوا بِهنَّ:
لا تقبلوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من ثقة، ولا تستدينوا ولو لَبِستم العباء - العباء: كساء مفتوح من الأمام - ، ولا تكتبوا شِعراً فتَشغلوا به قلوبكم عن القرآن .
ولمّا أدركته الوفاة، دفنوه في سفحِ ((المُقطّم)) ثمّ انقلبوا إلى تركتِهِ يُفتّشونها، فإذا هو قد خلّف بضعاً وسبعين قوساً؛ مع كل قوس قرنٌ ونِبالٌ، وقد أوصى بهنّ أن يُجعلنَ في سبيل الله .
* * *
نضّرَ الله وجهَ القارئ العالِم الغازِي عقبة بن عامر الجُهنيّ ، وجزاهُ عن الإسلام والمسلمين خيرَ الجزاء .
الإثنين ديسمبر 09, 2019 2:56 am من طرف ^_^amdian^_^
» مدينة رسول الله وفضائلها
الخميس أغسطس 21, 2014 11:00 pm من طرف ام هنا
» مايحتاجه جسم المؤمن من طعام
الخميس أغسطس 21, 2014 10:53 pm من طرف ام هنا
» كيف أجعل زوجي يطيعني ,,,طريقة ناجحة
الخميس أغسطس 21, 2014 10:52 pm من طرف ام هنا
» خواطر حزينة
الخميس أغسطس 21, 2014 10:50 pm من طرف ام هنا
» الاخوه فى الله عز وجل
الخميس أغسطس 21, 2014 10:26 pm من طرف ام هنا
» طريقة للزواج العاجل والسريع للبنت
الأربعاء فبراير 26, 2014 1:02 pm من طرف مشاعل
» سلسله افلام على الكسار DSRip
الأحد فبراير 02, 2014 8:38 am من طرف eigle
» فضل يوم عرفه
الإثنين أكتوبر 14, 2013 10:52 am من طرف وليد السيد محمد
» الاخوه فى الله عز وجل
الأربعاء سبتمبر 25, 2013 11:23 pm من طرف وليد السيد محمد
» الاخوه فى الله عز وجل
الأربعاء سبتمبر 25, 2013 10:43 pm من طرف وليد السيد محمد
» حياة القرآن اجمل حياه
الثلاثاء سبتمبر 24, 2013 12:06 am من طرف وليد السيد محمد
» تلبيا لرغبات الاعضاء فيلم" البحث عن نيمو" مدبلج بالعربية
الإثنين سبتمبر 23, 2013 12:22 am من طرف عاشقه عبودي
» طلب طلب طلب طلب
الإثنين سبتمبر 23, 2013 12:17 am من طرف عاشقه عبودي
» سندريلا الجزء الاول مدبلج بالعربية
الإثنين سبتمبر 23, 2013 12:08 am من طرف عاشقه عبودي
» اكواد كول تون البوم اليسا الجديد {تصدق بمين}
الأحد سبتمبر 22, 2013 11:50 pm من طرف عاشقه عبودي
» معلومات غريبة ومفيدة
الأحد أغسطس 04, 2013 5:54 am من طرف اميرة احمد
» فوائد بيض الارانب!!!
الأحد أغسطس 04, 2013 5:47 am من طرف اميرة احمد
» عضو جديد أود التعارف
الثلاثاء يونيو 11, 2013 10:29 am من طرف ايلين الخيال
» الشيخ محمد العريفي :أيقظ غيرك .معلومات رائعة
الأحد أبريل 28, 2013 5:16 pm من طرف ام هنا
» وصفه لتخسيس البطن
السبت أبريل 27, 2013 10:56 am من طرف ام هنا
» بجد مفيش حاجة فى الدنيا نزعل عليها
الجمعة أبريل 26, 2013 4:37 pm من طرف ام هنا
» هل تعلم ان ...
الإثنين أبريل 22, 2013 1:09 pm من طرف ام هنا
» هل تعلم ان الرعد***
الأربعاء أبريل 17, 2013 8:12 pm من طرف ام هنا
» قالوا عن المراة
الثلاثاء أبريل 16, 2013 9:03 pm من طرف ام هنا
» معلومات عن التمر صدمتنى
الإثنين أبريل 15, 2013 11:32 pm من طرف ام هنا
» خواطر كن كما انت
الإثنين أبريل 15, 2013 5:50 pm من طرف ام هنا
» اربعون حديثا قدسيا واربعون حديثا من الاذكار
الإثنين أبريل 15, 2013 5:29 pm من طرف ام هنا
» انا والحزن
الأحد أبريل 14, 2013 6:30 pm من طرف ام هنا
» هل انت فى نعمة
الأحد أبريل 14, 2013 6:22 pm من طرف ام هنا